
السؤال:
السادة الفضلاء
ما الحكم الشرعي فيما قامت به بعض السلطات الغاشمة – كالحال في سوريا- من الاختفاء القسري لبعض المظلومين من أفراد الشعب، ثم القيام بتعذيبهم، حتى القتل، ثم دفنهم في مقابر جماعية؟ وغالب الظن أنهم لم يغسلوا ولم يكفوا الكفن الصحيح ولم يصل عليهم، فما حكم الدفن في مقابر جماعية في مثل هذه الحالة؟ وهل يجوز إخراجهم بعد اكتشاف تلك المقابر ونقلهم إلى مدافن أخرى؛ تقديرا لهم، وأيضا هل يجوز الصلاة عليهم صلاة الجنازة؟ وماذا عن الأشخاص الذين لم يعرفوا من أثر التعذيب أو الموت حرقا؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة و السلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين
وبعد :
الجواب:
فلاشك أن من آثار اختفاء شخص أو فقده ما يتعلق بأحكام المقابر الجماعية وغيرها، لكن هذا فيما يتصل بالآثار التي لها تعلق مادي أو حقوقي، ولكن هناك آثار اجتماعية ونفسية تزيد عن ذلك أثرا وضررا .
وحديثنا ينصب بالدرجة الأولى على الاختفاء أو بالأحرى الإخفاء القسري الذي مارسته بعض الأنظمة المستبدة – كالحال في سوريا- في حق عشرات الآلاف من أبناء الشعب، حيث دمر هذا الإخفاء آلاف الأسر وتركها نهبا للضياع والتمزق و الفقر فضلا عن آثار الحرمان الناتجة عن فقد الزوج و الأب والمعيل مما دمر الجانب النفسي و العاطفي لآلاف الأسر طيلة تلك السنين العجاف .
أولا- حكم المقابر الجماعية:
الأصل أن يدفن كل ميت مسلم في قبر وحده، وذلك من باب تكريم الميت، واختلف الفقهاء في حكم دفن أكثر من ميت في القبر لغير الضرورة . فذهب الحنفية والمالكية وبعض الشافعية إلى الكراهة . وذهب الحنابلة وبعض الشافعية إلى الحرمة . والراجح عدم جواز دفن أكثر من ميت في قبر واحد لغير ضرورة.
أما في حال الضرورة كالحروب والكوارث والأوبئة العامة فيرى الفقهاء أنه إن شق حفر القبور بحيث يكون لكل ميت قبر فيمكن اللجوء لما يسمى القبور الجماعية بقدر الضرورة ، وهذا يعني أنه لا يجوز اللجوء الى القبور الجماعية لغير ضرورة أو عذر معتبر وإن كانوا قد يختلفون في تقدير بعض الأعذار.
ودليل مشروعية المقابر الجماعية للضرورة، قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ” ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد ” رواه الترمذي (4/213)
ولكن الذي حصل في بعض بلاد المسلمين في ظل الاستبداد وفي نماذج مشابهة من البلاد التي توجد فيها أقليات مسلمة مضطهدة أو حتى أكثريات مغلوبة على أمرها أن هذا النوع من المقابر الجماعية هو سلوك إجرامي ممنهج بمعنى أن هؤلاء المجرمين توسعوا في القتل و الإجرام ولم يجدوا بدا من اللجوء الى المقابر الجماعية أو ربما ظنوا أنهم يخفون جرائمهم بمثل هذه المقابر التي تفتقر إلى أدنى مراعاة للمعاني الإنسانية فضلا عن القيم الأخلاقية في التعامل مع الموتى ، فما الحكم في مثل هذه المقابر الجماعية التي صنعها المجرمون ؟
اكتشاف المقابر الجماعية
كان من الطبيعي في بلاد الاستبداد – كما هو الحال في سوريا سابقا- أن يبحث الناس عن آلاف المفقودين الذين لم يعثر لهم على أثر بعد أن سقط النظام وانفضحت شبكات السجون السرية وأفانين التعذيب والإجرام الممنهج، وكان من الطبيعي افتراض وجود مقابر جماعية عرف بعضها و لم يعرف كثير منها وربما لن يعرف وخصوصا إذا ما علمنا أن من وسائل التعذيب التي اتبعت هي المكبس الذي يقتل الأحياء بأن يضغط ويطحن الجثث ويحيلها الى مادة صغيرة يسهل على المجرمين إحراقها أو دفنها كيفما كان
وكلامنا عن المقابر الجماعية التي اكتشفت وظهرت فيها بقايا الجثث فماذا يلزم في مثل هذه الحالة؟
ثانيا- نقل وتكفين الجثث:
اتفق الفقهاء على منع نبش القبر إلا لعذر وغرض صحيح ، واتفقوا على أن من الأعذار التي تجيز نبش القبر كون الأرض مغصوبة أو الكفن مغصوبا أو سقط مال في القبر ، وفي غيرها من الأعذار تفصيل بينهم.
فالأصل ألا ينقل الميت من قبره الا لضرورة كما حصل مع شهداء أحد لما دهمهم السيل فنقلهم الصحابة رضي الله عنهم إلى مكان آمن.
ولكن: هل يجوز نقل من مات تحت التعذيب ودفن في مقابر جماعية من النظام الظالم، خاصة إذا استصحبنا أنهم لم يغسلوا ولم يكفنوا الكفن الشرعي، ودفنوا بأن حفرت لهم حفر، وضعوا فيها؟
هذه مسألة جديدة في صورتها، لم تعرف في الماضي ، والراجح فيها الجواز.
ومستنده أن الفقهاء أجازوا النقل لأغراض متعددة، منها: عند إرادة نقله عند توافر شروط النقل، كما نص على ذلك المالكية، وعند الشافعية لا ينقل إلا للضرورة، ومنها: لو دفن بلا غسل، فيجب نبشه تداركا لغسله الواجب ما لم يتغير، وقال النووي: وللصلاة عليه، فإن تغير وخشي فساده لم يجز نبشه لما فيه من انتهاك حرمته. ونص الحنابلة على جواز نبش القبر ما لو دفن قبل الغسل فيلزم نبشه ويغسل تداركا لواجب الغسل، ما لم يخف تفسخه أو تغيره، وكذ لو دفن لغير القبلة ، ولو دفن قبل الصلاة عليه، فينبش ويصلى عليه،وكذا لو دفع قبل تكفينه.
ودليل ذلك ما روى سعيد عن شريح بن عبيد الحضرمي أن رجالا قبروا صاحبا لهم لم يغسلوه ، ولم يجدوا له كفنا ، ثم لقوا معاذ بن جبل فأخبروه فأمرهم أن يخرجوه من قبره ثم غسل وكفن وحنط وصلي عليه .
ومن النبش للغرض الصحيح تحسين الكفن ، لحديث جابر قال : ” أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي ابن سلول بعدما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه ” (أخرجه البخاري ( فتح الباري 3 / 214 ) ومسلم ( 4 / 2140 ) .) ، ومنها دفنه في بقعة خير من بقعته التي دفن فيها فيجوز نبشه لذلك ولمجاورة صالح لتعود عليه بركته وكإفراده في قبر عمن دفن معه ، لقول جابر : دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته ، فجعلته في قبر على حدة وفي رواية كان أبي أول قتيل ، يعني يوم أحد ، ودفن معه آخر في قبر ، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر ، فاستخرجته بعد ستة أشهر ، فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه. (أخرجه البخاري ( فتح الباري 3 / 214 ، 215 ).
وكل ما سبق ينطبق – غالبا- على المقابر الجماعية التي قام بها النظام الظالم بعد قتل المعتقلين، على أن تقدير النقل بسبب التغير من عدمه إنما يرجع لأهل التقدير.
كما أنه من المصلحة إخراج الجثث للصلاة عليها؛ إذ إن ذلك من واجبات المسلم على إخوانه، وفي الصلاة عليهم بعد قتلهم ظلما ودفنهم بلا رحمة تطييب لخاطر أهلهم، وإقامة للسنة.
ثالثا- تحليل أو تحديد أو التعرف على أصحاب الجثث
مع كثرة المفقودين وحاجة الناس إلى معرفة أحوال أقربائهم المفقودين نظرا للأحكام المتعلقة بذلك من انحلال عقدة النكاح والعدة والميراث وغير ذلك فلا نرى مانعا من اللجوء الى تحليل DNA أوما شابه لمعرفة صاحب الجثة ما أمكن ذلك ، مع مراعاة سلامة الجثث وعدم الإساءة إليها وإعادة تكفينها بطريقة لائقة .
وقد أجاز ذلك مجمع الفقه الإسلامي الدولي، في: ( قرار رقم: 194 (20/9)، حيث جاء فيه:”ويمكن الاستئناس بالبصمة الوراثية في مجال إثبات النسب، فيما يؤخذ فيه بالقافة من باب أولى، في الحالات التالية: …….. (3) حالات ضياع الأطفال واختلاطهم بسبب الحوادث والكوارث وتعذر معرفة أهليهم، وكذا عند وجود جثث لم يتمكن من معرفة هويتها بسبب الحروب أو غيرها”.
رابعا- صلاة الجنازة عليهم
هل تصلى صلاة الجنازة على من وجد في المقابر الجماعية؟
هؤلاء جميعا قتلوا ظلما (وربما يكون بعضهم قد قتل في ساحات المعارك) وبالنظر في أحكام المقتول ظلما فإن له حكم الشهيد في الآخرة أي أنه يرجى له أجر الشهيد ولكنه يعامل في الدنيا معاملة الميت على الراجح بمعنى أنه يغسل ويصلى عليه، والتغسيل مرتبط بالإمكانية هذا إذا أمكن إخراجه وإعادة تكفينه ونقله الى مقبرة لائقة، وأما الصلاة فإن أمكن إخراجهم يصلى عليهم بعد التكفين وإلا يصلى عليهم في مقابرهم ، ودليل ذلك ما ورد عن أبي رافع عن أبي هريرة أن امرأة أو رجلا كانت تقم المسجد ولا أراه إلا امرأة فذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبرها( أخرجه البخاري ( فتح الباري 3 / 504 ـ 505) ومسلم ( 2 / 569) . وقال ابن المنذر: ذكر نافع أنه صلى على عائشة وأم سلمة وسط قبور البقيع، وصلى على عائشة أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر، وفعل ذلك عمر بن عبد العزيز.
وأجاز بعض أهل العلم أن تصلى عليهم صلاة الغائب إذا لم يمكن الوصول إلى مقابرهم .، كما هو مذهب الشافعية والحنابلة في تجويز الصلاة على الغائب خاصة إن لم يكن صلي عليه، وهو اختيار الإمامين ابن تيمية وابن القيم؛ وذلك استدلالا بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على النجاشي، كما في البخاري ومسلم.
والله أعلم
هيئة فتاوى الشأن العام
الشيخ محمد الحسن الددو | أ.د/ محمد عثمان شبير | د. محمد يسري | د. أحمد سعيد حوا | د. عبدالحي يوسف |
د. رأفت الميقاتي | د. فاتح آيدين | د. مصطفى داداش | د. بلخير طاهري | د.محمد سالم الدودو |
د. مسعود صبري |