
السؤال:
السادة العلماء
في ظل حالات الاختفاء القسري الذي قامت به بعض الأنظمة الظالمة لشعوبها كما هو الحال في سوريا وغيرها ، وما ترتب عليه من آثار على الأسرة من اختفاء الزوج، بحيث لا يعرف له مكان، ولا يعرف هل هو حي أم ميت؟ فهل يجوز للمرأة التي يئست من معرفة مصير زوجها أن تطلب التفريق، وهل يحكم على المفقود بالوفاة؟ وهل يجوز لزوجته أن تتزوج بغيره؟ وماذا لو تزوجت بغيره ثم ظهر زوجها المفقود بعد ذلك ؟ وما مآل المال الذي تركه المفقود، هل يقسم بين أقاربه على قواعد الميراث، أم ماذا يفعلون فيه؟
الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فالاختفاء القسري هو أحد وجوه انتهاك حقوق الإنسان، الذي يتمثل في احتجاز شخص أو اختطافه من قبل سلطات الدولة أو مجموعات تابعة لها أو أطراف أخرى، دون الاعتراف بمصيره أو مكان وجوده، ويستخدم عادة كإحدى أدوات قمع المعارضة السياسية، أو بث الخوف في المجتمع للخضوع للسلطة وعدم معارضتها.
ويعتبر الاختفاء القسري جريمة بموجب القانون الدولي الذي اعتمدته الأمم المتحدة في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري عام 2006م لمكافحته، ومن أبرز أمثلته ما حصل في أمريكا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات من خلال الأنظمة العسكرية هناك، وما قامت به السلطات السورية أيام نظام حافظ الأسد وابنه بشار الأسد قبل سقوط النظام، وتشير بعض التقارير إلى قيام السلطات المصرية بالاختفاء القسري لبعض الحالات بعد الانقلاب العسكري في مصر عام: 2013م.
ولعل من أبرز الآثار المادية والحقوقية التي يخلفها الإخفاء القسري على الأسرة ما يتعلق بأحكام المفقود مما يتصل بأحكام زوجة المفقود وميراثه وغيرها من المسائل.
ولا يعقل أن تجبر الزوجة على الصبر على فقد الزوج إلى ما لا نهاية وخصوصا في الحالات التي يغلب على الظن أن الزوج قد قتل في السجن تحت التعذيب أو قتل في معارك الإبادة التي تقوم بها النظم المستبدة ضد الشعوب .
ولا يعقل أن يعلق ميراث أسرة كاملة في حالة موت أحد أعضائها على معرفة مصير المفقود وخصوصا أن هذا المصير قد يبقى مجهولا الى سنين طويلة.
وبيان تلك الأحكام كما يلي:
أولا- الأصل المقرر في المفقود هو بقاء حياته
الأصل في الشرع هو بقاء ما كان على ما كان ، وعليه فإن الأصل بقاء حياة المفقود حتى تثبت وفاته بيقين أو ببينة معتبرة شرعا كشهادة الشهود الثقات أو بحكم القاضي الشرعي بوفاته.
ولكن ذلك لا يمنع من معالجة بعض آثار الفقد .
ثانيا- طلب التفريق قبل ظهور حال المفقود وآثاره:
اختلف الفقهاء في طلاق زوجة المفقود على النحو التالي:
الرأي الأول: تبقى المرأة في عصمة زوجها المفقود حتى يموت أو يأتي طلاقها. وبه قال عدد من فقهاء الصحابة والتابعين ، وإليه ذهب الحنفية ، والشافعي في الجديد.
ودليلهم في هذا ما أخرجه الدارقطني (3/312) من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ” امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها الخبر “. وفي مصنف عبد الرزاق ( 7 / 90 ) عن الحكم بن عتيبة ، أن عليا ، قال في امرأة المفقود هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها موت ، أو طلاق”.
الرأي الثاني: أن امرأة المفقود تتربص أربع سنين، ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، فإذا انقضت حلت للزواج. وبه قال عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس وابن الزبير ورواية عن ابن مسعود وعلي – رضي الله عنهم، وهو قول الشافعي في القديم. ففي مصنف ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب أنه قال في امرأة المفقود تربص أربع سنين ثم يدعى وليه فيطلقها فتعتد بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا .
الرأي الثالث: تتربص سنة، وذلك إذا فقد في الصف عند القتال، وإذا فقد في غيره تربصت أربع سنين. وبه قال سعيد بن المسيب.
وللمالكية تفصيل لا يخرج في الجملة عن الأقوال الثلاثة.
فإذا حكم لها القاضي بالتفريق تعتد عدة التفريق كعدة الطلاق مع مراعاة خلاف الفقهاء في هذه العدة، واختيار القاضي بين الأقوال الفقهية المتعددة.
ثالثا- حكم القاضي بوفاة المفقود
وقد يحكم القاضي بوفاة المفقود حقيقة أو حكما بحسب ما يظهر له من البينات أو القرائن، فإذا حكم القاضي بالوفاة فتعتد عدة الوفاة.
وفي حال حكم القاضي بالوفاة ننظر في تاريخ الوفاة الذي حدده أو قدره القاضي وبناء على ذلك نطالب الزوجة بالعدة إلا إذا فات وقتها.
رابعا- متى تبدأ العدة؟
اختلف الفقهاء في بداية مدة التربص على آراء: الأول: من حين رفع الأمر إلى القاضي، وهو رأي عمر وعطاء وقتادة، وهو مذهب المالكية. والثاني: من حين اليأس من وجود زوجها المفقود بعد التحري عنه، وهو رواية عن مالك، والقول الأظهر عند الشافعية، وراوية عند الحنابلة. والثالث: من حين الغيبة، وهو قول الشافعي في القديم، والرواية المعتمدة عند الحنابلة.
والراجح الرأي الأول، وهو من حين رفع الأمر إلى القاضي؛ لأن عدم رفع المرأة أمرها للقاضي معناه تحمل الضرر وبقاء الزوجية، لأن الأصل بقاء الحياة الزوجية؛ كالمتضررة لا ترفع أمرها للقضاء؛ فتبقى الزوجية.
خامسا- تيقن وفاة المفقودين بعد سقوط النظام البائد
إذا لم تطلب زوجة المفقود التفريق ولم يحكم القاضي بوفاة المفقود وانتهى الأمر إلى مثل الحال الذي حصل في سورية بسقوط النظام المجرم وانكشاف أمر السجون وخروج من بقي فيها من المغيبين قسريا أحياء، فهذا يعني بالضرورة أن من فقد من المعتقلين أو المغيبين قسريا قد قتلوا أو ماتوا، وعليه فقد انحلت عقدة النكاح بينهم وبين أزواجهم إن كانوا متزوجين، ثم ننظر فإن ترجح وقت قديم للوفاة أو القتل فقد فات وقت العدة ، وإن لم يترجح وقت قديم ولم تقم قرينة على ذلك فالقاعدة الفقهية تقول: “يضاف الحادث إلى أقرب أوقاته” ونعتبر أن الوفاة متأخرة و تطالب الزوجة بعدة الوفاة بالعدة أربعة أشهر وعشرة أيام.
سادسا- حكم من تزوجت وظهر زوجها المفقود حيا
هذه المسألة لا تخلو من أحد أمرين؛ إما أنها طلبت التفريق القضائي وحصلت عليه ثم اعتدت ثم تزوجت بآخر فهذه قد انتهى زواجها الأول وزواجها الثاني صحيح.
وإما أنها لم تطلب التفريق وإنما قيل لها إن زوجها مات أو رجحت القرائن أنه مات فاعتدت ثم تزوجت، فهذه قد اختلف أهل العلم فيها ، والأحوط أنها تخير بينهما فأيهما اختارت طلقها الآخر وعقد عليها الذي اختارته بعد الاستبراء.
كما يخير الزوج السجين فإن اختارها فالحكم ما سبق وإن اختار تركها لزوجها الجديد فله ما دفع من المهر ولا حول ولا قوة الا بالله
سادسا- ميراث المفقودين
في حال كون المفقود مالكا للمال فإن ماله لا يوزع ترجيحا للأصل وهو بقاء الحياة إلا أن تثبت وفاته ببينة معتبرة أو أن يحكم القاضي الشرعي بوفاته حقيقة أو حكما.
وفي المقابل أتاح الإسلام للأسرة التي يموت أحد أعضائها وفيها مفقود أن توزع الميراث على الورثة الأحياء الموجودين ولكن مع مراعاة احتمال بقاء حياة المفقود وذلك بأن يحفظ للمفقود أوفر النصيبين من حالي حياته ومماته ويعطى للورثة الآخرين أقل النصيبين على الاحتمالين إلا أن تثبت وفاته ببينة معتبرة أو أن يحكم القاضي الشرعي بوفاته حقيقة أو حكما ، وفي حال ظهور المفقود حيا وكان أقرباؤه قد تصرفوا بحقه فله استرجاع حقه من الآخرين .
والله أعلم
هيئة فتاوى الشأن العام
الشيخ محمد الحسن الددو | أ.د/ محمد عثمان شبير | د. محمد يسري | د. أحمد سعيد حوا | د. عبدالحي يوسف |
د. رأفت الميقاتي | د. فاتح آيدين | د. مصطفى داداش | د. بلخير طاهري | د.محمد سالم الدودو |
د. مسعود صبري |