هيئة فتاوى الشأن العام

حكم العفو العام وإسقاط العقوبات عن المجرمين

السؤال

تعلمون أن الإدارة الجديدة في سورية أعلنت عفوا عاما إبان معارك التحرير وما سمي بردع العدوان وأطلقت شعار “فتح لا ثأر فيه” فهل يجوز شرعا للقيادة أو للحاكم الجديد أن يعلن مثل هذا العفو؟ وما حدوده؟ وما هي قيوده أو استثناءاته إن وجدت؟

الجواب:

مقدمة

لم يعد خافيا على أحد ما اقترفه النظام البائد في سورية من جرائم فاقت الوصف وتجاوزت كل أنواع الجرائم التي عرفت في الحروب أو حتى ضد الإنسانية حيث مارس القتل العشوائي و القصف و التدمير والإبادة الجماعية والتهجير و التشريد بل و استخدم السلاح الكيماوي كما مارس كل أصناف التعذيب لانتزاع الاعترافات الباطلة تحت الإكراه، ولم يقف الأمر عند حدود التعذيب البدني بل تعداه الى انتهاك الحرمات وممارسة الجرائم الجنسية وجرائم الاغتصاب، ومارس كل ذلك بطريقة ممنهجة مقصودة وعلى نطاق واسع شمل كل مناطق سيطرته بلا استثناء .

ومارس هذه الجرائم كبار ضباطه وقياداته ونفذها جنوده وشبيحته وأعوانه فلسائل أن يسأل هل لهؤلاء عفو أو براءة بعد كل هذا الإجرام؟؟

الحكم الأصلي

لا شك أن الأصل أن يعاقب المجرم على جريمته إذا ثبتت بطريق معتبر شرعا وخصوصا في مثل هذه الجرائم التي ترقى إلى جرائم الحرابة و الإفساد في الأرض؛ لأن هذا النوع من الجرائم مورست بطريقة ممنهجة ضد شعب أعزل خرج بصدور عارية يطالب بأبسط حقوقه المكفولة شرعا وقانونا، وإنما اضطر الناس لحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم أمام هذه الجرائم الوحشية و لرد عادية المعتدي،  ومن المقرر شرعا أن عقوبة المحارب المفسد في الأرض لا تسقط إلا في حال التوبة قبل القدرة عليه، وقد اتفق الفقهاء  على أن حد الحرابة والإفساد في الأرض  يسقط بالتوبة إذا تحققت توبة القاطع قبل القدرة عليه، وذلك لقوله تعالى : ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ‌مِنْ ‌قَبْلِ ‌أَنْ ‌تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 34]  .

ولكن هؤلاء المجرمين في معظمهم لم يتوبوا قبل القدرة عليهم، بل ظلوا على إجرامهم ومواقعهم حتى اللحظة الأخيرة.

وقبل أن نصل إلى جواب السؤال أعلاه نرى أن ما يسمى اليوم بمقتضيات العدالة الانتقالية تؤكد ضرورة معاقبة المجرمين لتسكين نفوس الضحايا وأهليهم وإطفاء ثائرتهم وضمان استتباب الأمن وتحقيق العدالة،

وفي المقابل فإن مقتضيات تحقيق السلم الأهلي تدعو إلى وضع حد لدورة العنف وتقييد حالات الثأر؛ لأن هذا سيؤدي إلى حالة لا منتهية من الجرائم وردات الفعل التي قد لا تنضبط، كما أن البلد بما تشتمل عليه من مكونات عرقية وطائفية أخرى وظفت في الماضي أو وظف كثير منها لصالح النظام المجرم، وقد توظف لإشعال نار الفتنة من جديد بين أبناء البلد الواحد، وهذا يقتضي التفكير بحلول عملية تؤيد فكرة العفو بالحدود والقيود والضوابط التي تحقق العدالة من ناحية والاستقرار من ناحية أخرى.

عود على بدء

فما الحكم في العفو العام وخصوصا إذا ما علمنا أن جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة ذهبوا إلى أن الحدود لا تسقط بعد وصولها إلى الإمام أو الحاكم، ولا يجوز للحاكم إسقاطها، ولا الشفاعة فيها بعد رفعها للإمام، وذلك لعموم الآيات، ومنها، قوله تعالى:﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾[الطلاق: 1]، وقوله سبحانه:﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾[البقرة: 187]،

وعليه فلا يملك الإمام العفو عن جرائمهم من قتل جماعي أو إبادة جماعية أو قتل فردي أو اغتصاب، سواء كانوا آمرين به أو مباشرين له أو متواطئين عليه، وسواء حدث القتل إثر تعذيب في السجون أو دونه، كل ذلك لتعلق حق الله تعالى وحقوق العباد به.

مع ملاحظة أن جرائم القصاص لصاحب الحق  فيها أن يعفو، و يبقى للحاكم التعزير إن رأى في التعزير مصلحة، وله العفو إن رأى في العفو مصلحة، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40]، وقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: 45] وفي صحيح ابن حبان من حديث أنس:” من اعتبط مؤمنا فهو قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول”، ولحديث البخاري:” من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يعفو، وإما أن يقاد”.

وبقي السؤال قائما فيما عدا جرائم القصاص من الجرائم الحدية أو جرائم الإفساد في الأرض، فهل هناك حكم استثنائي تسعف به قواعد الشريعة وكلياتها؟

الحكم الاستثنائي المصلحي

نرى والله أعلم أن قواعد الشريعة وكلياتها لا تأبى أن يلجأ الحاكم إلى نوع من العفو بحدود وقيود إن اقتضت المصلحة أو الضرورة ذلك.

ونرى أن المصلحة والضرورة تقتضيان ذلك من حيث المبدأ استنادا لما يأتي:

  • ما ذكرنا من مقتضيات تحقيق السلم الأهلي وحقن الدماء وضرورة تفويت الفرصة على المتربصين القاصدين لإفشال ما وصلت إليه البلد من استتباب الأمن وهزيمة الفاسدين، وكف شر أذاهم عن الناس، وفتح الطريق أمام دولة تقوم على مبادئ العدل والكرامة.
  • أننا لم نصل بعد إلى مرحلة تطبيق الحدود كما هي شرعا؛ نظرا للواقع الذي يعيشه الناس، كما أن تطبيق الحدود يحتاج إلى ممهدات ومقدمات لم تتحقق بعد في المجتمع.
  • كما يمكن أن يقال: إن ما يطبق في حالات فردية قد لا يناسبه حالات عموم الجرائم وانتشارها.
  • كما يمكن الاستئناس بوجود شبهة الإكراه التي قد تعفي كثيرين أو على الأقل تسقط عقوبتهم بالشبهة وهذا مبدأ معتبر شرعا، لحديث ” أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود” أخرجه أحمد، وللأثر: ” ادرؤوا الحدود بالشبهات”. أخرجه السمعاني.
  • وفي الحديث عن عائشة مرفوعا والصواب وقفه: «ادْرَؤوا الحدودَ عن المسلمين ما اسْتَطعتُمْ، فإن كان له مخرَجٌ فخلّوا سبيلَهَ، فإنَّ الإمامَ إنْ ‌يُخْطئُ ‌في ‌العفوِ خَيرٌ من أن يُخْطئَ في العقوبة» أخرجه الترمذي.
  • وعليه يمكن أن نقول: إن النظر المصلحي الذي يوازن بين المصالح والمفاسد والنظر المقاصدي الذي جعل حقن الدماء في رتبة الضرورات كلاهما يفتح مجالا لفكرة العفو من حيث المبدأ
  • وهذا ما فعله نبينا عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة بعد كل ما فعلته به قريش وقياداتها من تعذيب وإيذاء وتهجير وقتال فقال لهم قولته المشهورة “اذهبوا فأنتم الطلقاء” رواه البخاري ومسلم، وكان ذلك مقدمة لدخول كثيرين منهم في دين الله أفواجا فأسلموا وحسن إسلامهم ونحن نرجو لكثير من هؤلاء المجرمين أن يتوبوا وتحسن توبتهم.
  • أن أنظمة الدولة خاصة الشرطة والأمن الذين قاموا بإيذاء الشعب لم يكونوا على درجة واحدة، فبعضهم قام بالاعتقال والسجن، وبعضهم قام – زيادة على ذلك- بالتعذيب الذي لا يرتقي إلى الحدود، وبعضهم قام بأكبر من ذلك، فما دون الحدود والقصاص فيه سعة أكبر من العفو بلا حرج، ويرجى ممن اعتقلوا أو عذبوا مسامحتهم والصفح عنهم، وإلا كان للحاكم العفو عنهم في الدنيا، وحقهم لا يسقط عند الله في الآخرة.

قيود واردة على مبدأ العفو العام:

لكن النظر المصلحي يقتضي أيضا التفريق بين أكابر المجرمين وأمثالهم وبين غيرهم، ممن ثبت أنه كان مأمورا بالقتل أو مكرها عليه.

ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعلن العفو العام استثنى أشخاصا قيل خمسة وقيل عشرة في بعض الروايات ومنهم نساء فقال ” اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين ‌بأستار ‌الكعبة” رواه أبو داود والنسائي.

وعليه يمكن أن نقول إن النظر السياسي الشرعي والمصلحي يقتضي استثناء الأصناف التالية من العفو العام والتمسك بالحكم الأصلي في حقهم وهم:

  1. أكابر المجرمين الذين باشروا الجرائم بأنفسهم أو أمروا بها.
  2. القتل خارج ساحة المعارك.
  3. جرائم الاغتصاب.
  4. جرائم التعذيب في السجون وخارجها.

أما ما يتعلق بجرائم التعدي على الحقوق الشخصية كالعقارات والأموال، فإنها تنزع منهم وترد إلى أصحابها، بعد ثبوت ذلك بالأدلة والبينات.

مع ملاحظة أن كل ما ذكرناه يجب إثباته وتقديمه للقضاء، ولا يجوز لأحد أن يفتئت على حق الإمام أو الحاكم ويباشر العقوبة بنفسه، كما أن قيام القضاء بالتحقيق والتثبت وإصدار الأحكام القضائية أدعى لإقامة العدل، واستيفاء الحقوق، واستتباب الأمن، ورد كل حق لصاحبه.

والله أعلم وأحكم

هيئة فتاوى الشأن العام

الشيخ محمد الحسن الددو أ.د/ محمد عثمان شبير د. محمد يسري د. أحمد سعيد حوا د. عبدالحي يوسف
د. رأفت الميقاتي د. فاتح آيدين د. مصطفى داداش د. بلخير طاهري د.محمد سالم الدودو
د. مسعود صبري  

 

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى