
فتوى هيئة فتاوى الشأن العام رقم (٥) /٢٠٢٥
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
فقد اتفق أهل العلم على أنه في حال وقوع العدوان من الكُفّار على المسلمين – كما هو الحال في اعتداء الصهاينة على فلسطين وشعبها ومباشرتهم القتل والإجرام بحق أهل غزة ولبنان وسوريا – فإن الواجب الشرعي على المسلمين هو عونُ إخوانهم المسلمين ومشاركتُهم جهادَهم بالأنفس والأموال لردِّ العدوان، لا سيما إذا ظهر عجزُ المعتدَى عليهم عن ردِّ العدوان، فإن حالَ بينهم وبين نجدة إخوانهم بأنفسهم حائلٌ وجب إمدادُهم بأسباب القوة؛ لكي يتمكَّنوا من الدفاع عن أنفسهم وديارهم، فإن لم يفعلوا وجب عليهم مشاغلة عدوهم حتى يتمكنوا من نجدتهم.
ومن يفعل ذلك فقد ناصر الحق وقام بالواجب المطلوب منه وكان من المجاهدين إن بذل في ذلك قصارى جهده؛ عملاً بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «…وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» رواه البخاري (7288) ومسلم (1337).
وأما ما عدا هؤلاء فهم صنفان:
الأول: صنف يرضى بالحياد ولا يمارس نصرة المسلمين، بل يكتفي بالتأييد والدعاء دون بذل وسعه في نصرتهم، وهؤلاء هم الخاذلون للمسلمين، الذين حذَّرهم الرسول الله صلى الله عليه بقوله: «مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ» رواه أحمد (16415)، وأبو داود (4884)، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (5690).
الثاني: الذين يقفون إلى جانب العدو، ويمدونهم بأسباب القوة من سلاح وعتاد وربما رجال، أو يدعمونهم بالإعلام، أو يؤيدونهم ويشجعونهم، وهؤلاء خائنون وموالون للكفار، وحكمهم يتردد بين الكفر: إذا فعلوا ذلك حبًّا للكفار، أو اعتقادًا منهم في أولويتهم بحكم بلاد المسلمين، وبين الوقوع في كبائر الذنوب وموبقاتها: إذا فعلوا ذلك رغبة في المال والمعاش أو خوفًا على أرزاقهم وأنفسهم وتزلفًا للكفار، أو الحكام طلبًا لجاه، أو مال، أو غيره.
وهذا الصنف ممن يصدق عليه قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، قال ابنُ جرير رحمه الله تعالى: (يَعني تعالى ذِكرُه بقولِه: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ومَن يتولَّ اليهودَ والنصارى دون المؤمنين فإنَّه منهم؛ يقول: فإنَّ مَن تولَّاهم ونصَرَهم على المؤمنين، فهو من أهلِ دِينهم ومِلَّتهم؛ فإنَّه لا يتولى متولٍّ أحدًا إلا وهو به وبدِينه وما هو عليه راضٍ، وإذا رَضِيَه ورضِيَ دِينَه فقد عادَى ما خالفَه وسَخِطه، وصار حُكمُه حُكمَه) (تفسير ابن جرير 8/508).
وقال ابنُ حزم: (وصحَّ أنَّ قولَ الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} إنَّما هو على ظاهرِه بأنه كافرٌ من جملة الكفَّار فقط- وهذا حقٌّ لا يَختلِفُ فيه اثنانِ من المسلمين) (المحلى 1/386).
ومما ينبغي لحكام المسلمين الإحاطة به علمًا أن كل ما ينزل بأهل غزة من إزهاق النفوس وإتلاف الممتلكات بسبب الحصار الذي طال أمده، إنما هو في أعناقهم، وهم شركاء فيه، وسيُسألون عنه بين يدي الله عزَّ وجلَّ سؤال المشارك في قتلهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ… وذكر منهم: رَجُلًا عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ) رواه البخاري (7212) ومسلم (108).
ولن تبرأ ذمتهم إلا إذا غضبوا لله ولرسوله ولإخوانهم، وقاموا بما يستطيعون من الاستنكار الشديد، والتهديد بقطع العلاقات، واستدعاء السفراء، ومراجعة الاتفاقيات الاقتصادية والدولية، ونحوه.
كما يجب على الحكام منع مواطنيهم – ممن يحملون جنسيتهم – أن يشاركوا في القتال ضد أهل فلسطين؛ ومن فعل ذلك منهم فإنه يجب نزع جنسيته ومصادرة ماله وإهدار دمه؛ لأنه بفعله هذا قد نقض العهد وصار حلال الدم والمال؛ قال تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12].
ويجب عليهم الامتناع عن إيصال أي مؤن أو أغذية لهذا العدو المقاتل؛ لأن في ذلك تقوية وتمكينًا له -خصوصًا في هذه الأيام خلال هذا المعركة المباركة طوفان الأقصى-، وهو مُسْهمٌ بشكل كبير في إطالة أمد عدوانه وإجرامه.
وقد انعقد الإجماع على حرمة التعامل مع الكفار الحربيين فيما يتقوَّون به على المسلمين، حيث بيَّن الشيخ عُلّيش رحمه الله تعالى إجماع العلماء على تحريم إمداد الحربيين بما يتقوون به في ردِّه على استفتاء الأمير عبد القادر الجزائري في واقعة إمداد ملك المغرب الفرنسيين بالطعام والحيوانات بعد أن حاصرهم المجاهدون ثلاث سنين، فكان مما قال: “بيع البقر وسائر الحيوان والطعام والعروض وكل ما ينتفعون به في النازلة المذكورة حرام قطعًا إجماعًا ضرورةً لا يشك فيه مسلم، سواء في حال حصر المسلمين إياهم وفي حال عدمه؛ إذ قتالهم فرض عين على كل من فيه قدرة عليه ولو من النساء والصبيان من أهل تلك البلاد ومن قرب منها”. فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (فتاوى ابن عليش رحمه الله 2/497).
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم سلاح التضييق والضغط الاقتصادي مع الكافرين المعتدين فأخرج السرايا والبعوث لمهاجمة قوافل قريش التجارية، وكان سبب غزوة بدر طلبه لعير أبي سفيان.
وعليه فإن منع وصول البضائع للأعداء الصهاينة المحتلين المعتدين يُعَدُّ من أوجب الواجبات الشرعية على المسلمين وذلك منذ احتلالهم لفلسطين إلى أن يسقط احتلالهم، وتعطيل وصول البضائع والمواد إليهم بأية وسيلة من الوسائل من الجهاد المفروض عينًا على كل مسلم.
وقد أجمع علماء الإسلام على أن العدو إذا احتل شبرًا من بلاد الإسلام فإن الجهاد يصبح فرض عين على أهل هذه البلد وعلى من قرب منهم، وإذا عجزوا عن دفع هذا العدو فإن الفرض العيني يَعُمُّ الأقرب فالأقرب من بلاد الإسلام، فبلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وإذا لم تتحقق بهم الكفاية أو تخاذلوا فعندها يصير الجهاد فرض عين على كل بلاد الإسلام وعلى كل مسلم في الأرض.
فيجب شرعًا منع الشاحنات التي تحمل المؤن والأغذية والأسلحة إلى العدو، واعتراضها بكل وسيلة ممكنة، وعلى كل مسلم قادر على منع وصولها أن يقوم بذلك، ولو كان بالوقوف في سلاسل بشرية في وجه هذه الشاحنات، وتتحمل السلطات التي تبيح ذلك، وكل الدول التي تسهِّل استقبال البضائع والمرور بأراضيها الإثم والوزر، وتعتبر شريكة في تقوية الأعداء على المسلمين، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.