العاداتالفتاوىالمجلس الأوربي للإفتاءفتاوى المجامع

إقامة المسلم خارج البلاد الإسلامية

السؤال:
أرجو من العلماء الفضلاء أن يفتونا مأجورين فيما يتعلق بإقامة المسلم في بلاد الكفر، وأتمنى أن تكون الإجابة مدعمة بالدليل الشرعي من الكتاب الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأقوال أهل العلم الفضلاء، ومفصلة بعض الشيء، وذلك لأنني أقيم في بروكسل حالياً وأود أن أعرف حكم الشريعة الغراء في ذلك.

المفتي: المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث

الجواب:

لقد كثر الحديث وطال عن موضوع إقامة المسلم خارج ديار الإسلام، وسمعنا مذاهب تتسم بالتشدد المطلق، بحيث توجب على كل من يعيش في هذه البلاد من المسلمين أن يرحل فوراً، اعتماداً على حديث يروى في ذلك يتضمن البراءة ممن يقيم بين أظهر المشركين سنأتي على بيان درجته ومعناه، وهذه المذاهب أوردت حرجاً على كثير من المسلمين.
والذي نراه في هذه المسألة التفصيل، فنقول: لا شك أنه لا يحل للمسلم أن يعيش بين غير المسلمين بغير هويته الإسلامية، إلا لإنسان تقطعت به الحيل ولم يجد سبيلاً للخلاص، والسبب في ذلك يعود إلى التمكين أو عدم التمكين للمسلم من وقاية نفسه ودينه ومن هو مسؤول عنهم كأهل بيته وأولاده، فإذا كان في بيئة يخاف منها على دينه أو نفسه وعياله فالواجب عليه أن يهاجر منها إلى بيئة يجد فيها تمكيناً له من حفظ ذلك، ولم يحل له المكث في البيئة التي يخشى فيها على الدين الفساد أو على النفس الهلاك.
قال اللَّه تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض اللَّه واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً * فأولئك عسى اللَّه أن يعفو عنهم، وكان اللَّه عفواً غفوراً * ومن يهاجر في سبيل اللَّه يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة [النساء: 97-100].
فجعلت الآية من ظلم الإنسان لنفسه قبوله العيش في كنف الذل مع قدرته على الانتقال إلى أرض أخرى يجد فيها حريته وأمنه وأسباب عيشه، ولم تستثن من الوعيد الذي ينتظر هؤلاء إلا العاجزين الذين لا قدرة لهم ولا حيلة عندهم.
فالهجرة تكون مشروعة صحيحة إذا كانت إلى بيئة يقع له فيها تمكين أكثر للقيام بشعائر الدين، بل هذه الهجرة مطلوبة مرغوبة، كما تكون مشروعة من بيئة إلى أخرى لا تضر الإقامة فيها على الدين.
ومن ذلك الهجرة إلى الحبشة التي وقعت بإذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للمستضعفين من أصحابه بمكة، هاجروا من بيئة كفر وظلم إلى بيئة غير إسلامية لكنها كانت عادلة، آوتهم وحمتهم وأقاموا فيها بين قوم نصارى لم يكونوا مسلمين، فأحسنوا البقاء بين أظهرهم، وحافظوا على دينهم وأنفسهم ومن كان معهم من أهليهم، ومكثوا بينهم إلى أن مكّن اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وأظهره على الكفار، فحين رأوا استقرار أمر دولة الإسلام رجعوا باختيارهم لا بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فالعبرة إذاً بالقيام بالدين والمحافظة عليه ووقاية النفس من الظلم والأذى، فإذا كانت تلك الإقامة في بلد ما مساعدة على ذلك فإنه لا يمتنع أن تكون في بلاد غير إسلامية أسوة بمهاجرة الحبشة، وإن كانت تضر بالدين وجبت الهجرة منها إلى بلاد يقدر الإنسان فيها على حفظ دينه ونفسه وأهله.
وأما الحديث الذي يتعلق به المشددون، وهو حديث جرير بن عبداللَّه البجلي قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» قالوا: يا رسول اللَّه لِـمَ؟ قال: «لا تراءى ناراهما». فهذا حديث لا يصح()، ولو ثبت فإن سبب وروده مفسر لمعناه، وهو أن أناساً أسلموا ومكثوا مع قومهم الكفار ولم يهاجروا إلى بلد الإسلام، حتى إذا وقعت مواجهة بين المسلمين وأولئك الكفار لم يتميز أمر أولئك المسلمين من بين سائر قومهم الكفار، فيقتلهم المسلمون في المعركة لعدم معرفتهم بهم حيث لم تميزهم علامة، فالبراءة منهم من جهة أن المسلمين لو قتلوهم فلا تبعة عليهم بذلك، وهذا المعنى لا وجود له اليوم، فتنزيل هذا الحديث على الواقع ممتنع، واقتطاع طائفة من الناس طرفاً من الحديث دون سائره وسببه من أكبر الآفات المفسدة للفهم الصحيح، نسأل اللَّه أن يلهمنا وإخواننا الهدى والصواب.

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى