الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد، وبعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، قد نظر في موضوع سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة)، ومايعقد فيها من عقود: بيعا وشراء علي العملات الورقية وأسهم الشركات، وسندات القروض التجارية والحكومية، والبضائع، وما كان من هذه العقود عيل معجل، وما كان منها علي مؤجل.
كما اطلع مجلس المجمع، علي الجوانب الإيجابية املفيدة لهذه السوق في نظر الاقتصاديين والمتعاملين فيها، وعلي الجوانب السلبية الضارة فيها.
(أ) فأما الجوانب الإيجابية المفيدة فيهي:
أولا: أنها تقيم سوقا دائمة، تسهل تلاقي البائعين والمشترين، وتعقد فيها العقود العاجلة والآجلة علي الأسهم والسندات والبضائع.
ثانيا: أنها تسهل تمويل المؤسسات الصناعية، والتجارية، والحكومية، عن طريق طرح الاسهم وسندات القروض للبيع.
ثالثا: أنها تسهل بيع الأسهم، وسندات القروض للغير، والانتفاع بقيمتها لآن الشركات المصدرة لها لاتصفي قيمتها لأصحابها
رابعا: أنها تسهل معرفة ميزان اسعار الأسهم، وسندات القروض والبضائع، وتموجاتها في ميدا ن التعامل، عن طريق حركة العرض والطلب.
(ب) أما الجوانب السلبية الضارة في هذه السوق فهي:
أولا: أن العقود الآجلة التي تجري في هذه السوق، ليست في معظمها بيعا حقيقيا، ولاشراء حقيقيا، لانها يجري فيها التقابض بين طرفي العقد فيما يشترط له التقابض في العوضين أو في أحدهما شرعا.
ثانيا: أن البائع فيها، عالبا يبيع مالايملك، من عملات، أو أسهم، أو سندات قروض، أو بضائع علي أمل شرائه من السوق، وتسليمه فيالموعد، دون أن يقبض الثمن عند العقد، كما هو الشرط في السلم.
ثالثا: أن المشتري فيها غالبا يبيع مااشتراه لآخر قبل قبضه، والآخر يببيعه أيضا لآخر قبل قبضه وهكذا يتكرر البيع والشراء على الشئ ذاته، قبل قبضه، إلي أن تنتهي الصفقة إلأي المشتري الآخير الذي قد يريد أن يتسلم المبيع من البائع الآول، الذي يكون قد باع مالايملك، أو أن يحاسبه علي فرق السعر في موعد التنفيذ، وهو يوم التصفية، بينما يقتصر دور المشترين والبائعين غير الأول والأخير، علي قبض فرق السعر في حالة الربح أو دفعه في حالة الخسارة، في الموعد المذكور، كما يجري بين المقامرين تماما.
رابعا: ما يقوم به المتمولون من احتكار الأسهم والسندات والبضائع في السوق، للتحكم في البائعين الذين باعوا ما لا يملكون علي أمل الشراء قبل موعد تنفيذ العقد بسعر أقل، لآن الأسعار فيها لاتعتمد كليا علي العرض والطلب الفعليين منقبل المحتاجين إلي البيع أو إلي الشراء، وإنما تتأثر بأشياء كثيرة بعضها مفتعل من المهيمنين علي السوق، أومن المحتكرين للسلع أو الأوراق المالية فيها ، كإشاعة كاذبة أو نحوها، وهنا تكمن الخطورة شرعا، لآن ذلك يؤدي إلي تقلبات غير طبيعية في الأسعار، مما يؤثر علي الحياة الاقتصادية تأثيرا سيئا علي سبيل المثال لاالحصر:
يعمد كبار الممولين إلي طرح مجموعة من الأوراق المالية من أسهم أو سندات قروض، فيهبط سعرها أكثر من ذلك وزيادة خسارتهم، فيهبط سعرها مجددا بزيادة عرضهم، فيعود الكبار أإلي شراء هذه الأوراق بسعر أقل، بغية رفع سعرها بكثرة الطلب، وينتهي الأمر بتحقيق مكاسب للكبار، وإلحاق خسائر فادحة بالكثرة الغالبة، وهم صغر حملة الأوراق المالية، نتيجة خداعهم بطرح غير حقيقي لآوراق مماثلة، ويجري مثل ذلك ايضا في سو ق البضائع.
ولذلك قد أثارت سوق البورصة جدلا كبيرا بين الأقتصاديين، والسبب في ذلك أنها سببت في فترات معينة، من تاريخ العالم الاقتصادي ضياع ثروات ضخمة، في وقت قصير، بيما سببت غني للآخرين دون جهد حتي إنهم في الأزمات الكبيرة التي اجتاحت العالم، طالب الكثيرون بإلغائها، إذ تذهب بسببها ثروات، وتنهار أوضاع اقتصادية في هاوية، وبوقت سريع، كما يحصل في الزلازل والانخسافات الأرضية.
ولذلك كله، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، بعد اطلاعه علي حقيقة سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة) ومايجري فيها من عقود عاجلة وأآجلة علي الأسهم وسندات القروض، والبضائع والعملات الورقية، ومناقشتها في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية يقررمايلي:
أولا: أن غاية السوق المالية (البورصة) هي إيجاد سوق مستمر ودائمة، يتلاقي فيها العرض والطلب والمتعاملون بيعا وشراء وهذا أمر جيد ومفيد، ويمنع استغلال االمحترفين للغافلين والمسترسلين، الذين يحتاجون إلي بيع أو شراء، ولايعرفون حقيقة الأسعار، ولايعرفون المحتاج إلي البيع، ومن هو محتاج إلي الشراء.
ولكن هذه المصلحة الواضحة يواكبها في الأسواق المذكورة (البورصة)،
أنواع من الصفقات المحظورة شرعا، والمقامرة والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل ولذالك لايمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها، بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجري فيها كل واحدة منها على حدة.
ثانيا: أن العقود العاجلة علي السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع، التي يجري فيها القبض فيما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعا، هي عقود جائزة، مالم تكن عقودا علي محرم شرعا، أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع، فيجب أن تتوافر فيه شروط بيع السلم، ثم لايجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه.
ثالثا: أن العقود العاجلة علي أسهم الشركات والمؤسسات، حين تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعا، مالم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضوع تعاملها محرم شرعا،كشركات البنوك الربوية، وشركات الخمور، فحينئذ يحرم التعاقد في أسهمها بيعا وشراء.
رابعا: أن العقود الآجلة، علي سندات القروض بفائدة، بمختلف أنواعها غير جائزة شرعاّ لآنها معاملات تجري بالربا المحرم.
خامسا: أن العقود الآجلة بأنواعها، التي تجري على المكشوف، أي علي الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في السوق المالية (البورصة) غير جائزة شرعا، لأنها تشتمل علي بيع الشخص مالايملك اعتمادا علي اأنه سيشتريه فيما بعد، ويسلمه في الموعد، وهذا منهي عنه شرعا لما صح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال ((لاتبع ماليس عندك)) .وكذلك مارواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد صحيح، عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلي الله عليه وسلم نهي أن تباع السلع حيث تبتاع، حتي يحوزها التجار إلي رحالهم))
سادسا: ليست العقو د الآجلة في السوق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإسلامية، وذلك للفرق بينهما من وجهين:
(أ) في السوق المالية ( البورصة ) لايدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، وإنما يؤجل دفع الثمن إلي موعد التصفية، بينما الثمن في بيع السلم يجب ان يدفع في مجلس العقد.
(ب) في السوق المالية ( البورصة ) تباع السلعة المتعاقد عليها ـ وهي في ذمة البائع الأول ـ وقبل أن يحوزها المشتري الأول عدة بيوعات، وليس الغرض من ذلك إلا قبض ودفع فروق الأسعار بين البائعين والمشترين غير الفعليين، مخاطرة منهم علي الكسب والربح، كالمقامرة سواء بسواء، بينما لايجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه.
وبناء علي ماتقدم، يري المجمع الفقهي الإسلامي: أنه يجب علي المسؤلين في البلاد الإسلامية، أن لايتركوا أسواق البورصة في بلادهم حرة، تتعامل كيف تشاء من عقود وصفقات، سواء أكانت جائزة أو محرمة، وأن لايتركوا للمتلاعبين بالأسعار فيها أن يفعلوا مايشاؤون، بل يوجبون فيها مراعاة الطرق المشروعة في الصفقات التي تعقد فيها، ويمنعون العقود غير الجائزة شرعا، ليحولوا دون التلاعب الذي يجر إلي الكوارث المالية، ويخرب الافتصاد العام، ويلحق النكبات بالكثيرين، لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشريعة الإسلامية في كل شيء، قال الله تعالي { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153} [الأنعام: 153]
والله سبحانه ولي التوفيق، والهادي إليسواء السبيل،
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المجمع الفقهي الإسلامي
قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة
الدورات :من الأولي إلي السابعة عشرة
القرارات :من الأولي إلي الثانية بعد المائة
(1398ـ 1424هـ /1977ـ2004م)