دعويةقضايا معاصرة

فن التفاوض عند أم المؤمنين سودة بنت زمعة

د. مسعود صبري

ربما كانت سودة بنت زمعة بن قيس – رضي الله عنها- أقل نساء النبي – صلى الله عليه وسلم – شهرة ومكانة، وكانت أكبرهن سنا، فقد كانت زوجة للسكران بن عمرو – رضي الله عنه-، وهاجرت معه إلى الحبشة الهجرة الثانية، فمات عنها، قيل: في الحبشة، وقيل: بعدما رجع مكة من الحبشة.

وبقيت سودة بنت زمعة أرملة، لا تفكر في الزواج، وهي المرأة كبيرة السن، ثقيلة الحركة، لكنها كانت من الصالحات، المحبات لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وربما لم يدر في خلد سودة يوما ما أن تكون أما للمؤمنين، وزوجة لرسول رب العالمين، ولم يكن عندها من المؤهلات ما يدفعها للتفكير في هذا، ولكن الله سبحانه وتعالى اصطفى سودة بنت زمعة أن تكون زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تكون أول زوجة له بعد خديجة – رضي الله عنها-، فهي الزوجة الوحيدة التي سكنت مكان خديجة، وباقي النساء عشن مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته في المدينة المنورة.

والأمر كما قالت خولة بنت حكيم الأسدية التي اقترحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها؛ كي تقوم ترعى بناته؛ زينب، وأم كلثوم، ورقية، وفاطمة – رضي الله عنهن، حين ذهبت إليها، وقالت لها: أي خير ساقه الله تعالى إليك يا سودة؟ وكأنها تقول لها بلسان الحال: ما الذي بينك وبين الله تعالى، حتى يكتب الله تعالى لك أن تكوني زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تصدق سودة بنت زمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خولة بنت حكيم لتخطبها، فوافقت على الفور، وكلمت خولة أباها زمعة بن قيس، فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم: كفء كريم.

وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشرة من البعثة بعد وفاة خديجة، وكانت خولة بنت حكيم قد خطبت له عائشة أيضا، فلما كانت الهجرة بنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة، وكان معه سودة.

وقد كانت من محاسن  سودة بنت زمعة – رضي الله عنها- أنها كانت تجيد فن التفاوض، ورغم ما نقله بعض أهل التاريخ عنها أنها كانت تتصرف أحيانا إلى حد السذاجة؛ إلا الناظر إلى سيرتها ليجد عندها من الخلال والأخلاق ما يفوق بعض ما قد يكون فيها، فقد كانت تجيد فن التفاوض في الحياة الزوجية، كما كان عندها دراية فطرية بفقه الأولويات، والموازنة بين المصالح والمفاسد.

ويظهر هذا من أول يوم في الهجرة بعد انتقالها من مكة إلى المدينة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وما أن بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة، فلم تقارن نفسها بعائشة باعتبارها زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما أن عائشة زوجة له، بل هي أسبق منها في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها، لكنها تعلم مكانة عائشة وأبيها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم تدخلها معها فيما يعرف بين الضرائر من المنافسة، فسلمت زمام البيت من أول يوم تجيء فيه عائشة، فجعلتها هي سيدة البيت الأولى، وهي صاحبة التصرف، وهي لها تبع في ذلك، فكسبت رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضا عائشة – رضي الله عنها-  بل ورضا المؤمنين، وكانت هذه أول جولة تكسبها سودة بنت زمعة – رضي الله عنها-، فقد علمت حب النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، فما كانت لتقدم نفسها عليها، فكسبت بذلك حب النبي صلى الله عليه وسلم ورضاه.

ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر، وزينب بنت جحش، وأم سلمة – رضي الله عنهن- لم تجد سودة – رضي الله عنها- مكانا لها بين النساء الجدد، فلا هي في جمالهن، ولا في سنهن، ولا في حكمتهن ولا ذكائهن، وهي توقن أن مكانتها عند النبي صلى الله عليه وسلم ليست كمكانة أي منهن، وقد شعر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فحاول تعويضها بما عرف عنه من العدل بين الزوجات، وأنه كان يلاطفها ويداعبها – رغم كبر سنها-، وكانت هي حريصة على ذلك، فكانت لها مشية مضحكة، فكانت تحرص أن تمشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المشية حتى تضحكه صلى الله عليه وسلم، وربما كانت تقول له بعض الفكاهة من القول حتى يتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أحس بما قد نابها من الأذى النفسي، من كونها لا تجد نفسها في مستوى الزوجات، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنها ما هي فيه، فعرض عليها الطلاق، وقيل: إنها طلقها، فكأنما اسودت الدنيا في وجهها، نعم، إنها لا تجد نفسها زوجة مثل باقي الزوجات، لكنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم للمؤمنين وكفى بذلك فخرا وشرفا، وفي إحدى الليالي  التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت عندها، عرض عليها الطلاق، فأمسكت بيد النبي صلى الله عليه وسلم تتوسل إليه أن يبقيها قائلة: يا رسول الله ما بي حب الرجال ولكني أحب أن أبعث في أزواجك فأرجعني.

وبقيت سودة هذه الليلة في حيرة من أمرها بين رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في طلاقها، وبين رغبتها في بقائها زوجة له، وقبيل الفجر لاحت لها فكرة ترضي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض عليه أن تتنازل عن ليلتها لعائشة – رضي الله عنها- مقابل أن يبقيها زوجة له، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلكورق لحالها، فأرجعها، وقيل: فيها نزل قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } [النساء: 128].

لقد قامت سودة – رضي الله عنها- بجودة فائقة بمهارات التفاوض في الحياة الزوجية، فهي بين خيارات متعددة، فالرسول يريد طلاقها، أو طلقها على اختلاف الروايات، ففكرت كيف تكسب ود النبي صلى الله عليه وسلم وتجعله يعدل عن رأيه، فقدمت ليلتها لعائشة، وهو نوع من التنازل الصعب في حياة الزوجة، لكنها امرأة كبيرة السن لا حاجة لها في المعاشرة الزوجية، فتنازلت عن ليلتها، مقابل أن تبقى زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وأما للمؤمنين، كما أنها تحشر مع النبي صلى الله عليه وسلم زوجة له في الآخرة، فقد أجادت سودة فن التفاوض بامتياز، وكسبت أرباحا كثيرة بأقل الخسائر، وهي تقدم للزوجات مهارة قد تحتاجها كثير من النساء في التفاوض مع الزوج في الحياة الزوجية بشكل عام، فالحياة الزوجية ليست قائمة فقط على العواطف، بل هي في حقيقتها قائمة على المصالح، وقد أعملت السيدة سودة – رضي الله عنها- بقاعدة تقديم المصلحة الكبرى على المفسدة الصغرى، وأنه يتحمل الضرر الأخف، وهو التنازل عن ليلتها، في مقابل الضرر الأكبر، وهو طلاقها من النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تعلمنا جميعا إعمال القواعد الفقهية في الحياة الزوجية.

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى