د. مسعود صبري
ربما يحار الإنسان حين يجد بعض من يمثل الإسلام يفشلون في تجربتهم ، خاصة في مجال الحكم والسياسة، فنادرة هي تلك التجارب السياسية باسم الإسلام التي نجحت، في حين نجد نجاحا – في الغالب- لمن يرفع غير راية الإسلام من أصحاب السلطة للسلطة، أو أصحاب الفكر العلماني، وأي غيره من الأفكار التي لا تجعل الشريعة مرجعا، وإن حاولت أن تتسمى باسم الإسلام، لأنها تحكم في بلاد المسلمين..
والناظر إلى غالب التجارب الإسلامية بعد سقوط الخلافة لا يجدها ناضحة نضوجا يمكن معه تقديم النموذج الأمثل، ولست هنا بصدد حديث مقاومة الطرف الآخر الذي يعادي المشروع الإسلامي، فهو إما عدو للإسلام، أو منافق يبيع دينه بعرض من الدنيا، سواء أكان هذا العرض مالا أو جاهلا أو سلطانا أو أي شيء آخر.. وإنما يجب البحث في الذات الإسلامية ، وفي تلك الطوائف والجماعات التي ترفع راية الإسلام باعتباره مشروعا يقدم لقيادة الناس في مجالات الحياة.
ومن المهم في محاولة إدراك أسباب الفشل وعدم تحقيق النجاح أن تكون هناك مكاشفة صادقة، ومصارحة – ولو كانت صادمة-، فإن التشخيص الجيد هو أولى خطوات العلاج، وإن التبرير للنفس والذات – سواء كانت جماعة أو شخصا- لهو أولى خطوات الهلاك، والابتعاد عن المسار الصحيح، وإن الإخلاص لله تعالى، والتخلص من أهواء النفس البشرية، لهو من أهم العوامل التي تساعد الفرد والجماعة على المكاشفة والمصارحة، وإن العبد ليرزق الإصلاح بالإخلاص يقصده.
ومن أهم تلك الأسباب ما يلي:
أولا- فقدان الوعي بالسنن:
إن كثيرا من قيادات الحركات الإسلامية عندهم ضعف في فهم سنن التغيير، وإن وجد منهم من يعي طرفا منها، لكنها لا تتحول عندهم إلى معايير يمكن تطبيقها في الواقع، فهناك انفصام كبير بين التنظير والتنزيل، فحديث الوعظ والإرشاد شيء، وتطبيقه على أرض الواقع شيء آخر، بل إن الإنسان ليعجب أحيانا من بعض القرارات التي لا تخرج من عاقل، لكنها تخرج من جماعات وحركات ذات ثقل كبير، وذلك من كل الحركات مع اختلاف مشاربها وتنوعها واتجاهاتها ومذاهبها الفكرية والفقهية، حتى إنك لتقول: ما لهؤلاء القوم {لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]
وكان من أهم مظاهر غياب الوعي الحضاري بالسنن أن يضع الإسلاميون أيديهم – بسذاجة- مع من يعادي المشروع الإسلامي، ومن يصالح الصهاينة، ظنا منهم أنهم صادقون معهم، مع عدم إحاطة بتاريخ أولئك رغم بيانه للجميع، ورغم عدم غيابه عن أصحاب المشروع الإسلامي.
وإن من فقه السنن أن من يقدم على شيء لابد أن يتدرب عليه، فإنه لا يحل في دين الله تعالى أن يعمل رجل عملا يسيرا دون أن يكون مؤهلا له، ومن هنا، فإن دخول الإسلاميين دفعة واحدة في خضم العمل السياسي بمجالاته المتعددة كان أول أمارات الفشل.
ثانيا- غياب القيادات الفكرية:
إن نجاح الحركات الإسلامية في شقها الفكري والاجتماعي كان ناجحا مبهرا منذ بدايات ظهور الحركات الإسلامية عقب سقوط الخلافة إلى عهد قريب، وقدمت الحركات الإسلامية بتنوعها أعلاما مجددين، من أمثال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حسن البنا، والشيخ الندوي، والشيخ ابن باديس ومحمد الطاهر ابن عاشور وغيرهم، غير أن غالب الحركات الإسلامية اليوم ليس لديها قيادات فكرية تسطيع تجديد الفكر الإسلامي، والإحاطة بمجريات الأمور، حتى تجديد الحركة الفقهية وإن نال حظا لا بأس به، لكنه يحتاج إلى مزيد من النضج، وحين كان قادة الحركات الإسلامية يمتازون برصانة الفكر، وشموخ الفقه؛ كان للحركات شأن آخر غير الذي نراه اليوم، فملأوا الدنيا فقها وفكرا وإصلاحا وتغييرا وتجديدا.
وقد نحّت بعض الحركات الإسلامية علماء الشريعة من قيادتها، واكتفوا بوجود ممثل لها، وقادها بعض المثقفين الذين يمكن وصفهم في الغالب بأنهم حركيون سياسيون أصحاب ثقافة إسلامية عامة، فلا هم مفكرون، ولا هم فقهاء علماء، وإن من يقرأ تاريخ الأمة ليدرك أن الفقهاء المفكرين كانوا هم من يقودون حركة المجتمع.. ولا نعني بالفقهاء المفكرين كل من تخرج من جامعة دينية، أو نال شهادة ، فنحن نعني من تكون تكوينا علميا رصينا حتى أصبح قائدا في مجالي الفكر والفقه، فبعض الحركات التي تتبنى النهج الفقهي القديم كثير من قياداتهم – رغم أنهم يتحدثون بالحلال والحرام- لكن ليس عندهم فقه بالواقع، وإن ألموا بشيء من فقه النصوص مجردا عن التنزيل.
ولا نقصد بهذا تنحي القيادات المثقفة عن المشهد والمشاركة في إدارة العمل، لكن الأخطر في الأمر أنهم هم الذين يخططون ويقودون، مع ما فيهم من ضعف في الفكر، وفقر في الفقه، وعدم استيعاب لحركة التاريخ والحضارة، بل كثير منهم يرجع إلى التاريخ الغربي، ناسين أو متناسين خصوصية المجتمع المسلم، ثم إنهم يحاولون أن يقنعوا الغرب أنهم راضون بالديمقراطية التي تخالف الإسلام في كثير من المبادئ، والغرب لا يرضى عنهم، مهما قدموا من تنازلات، ومهما لبسوا من ثياب التمدن، وتناسى أولئك قول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
ثالثا- الوقوع في الأخطاء الشرعية:
وانبنى على قيادة بعض المثقفين للحركات الإسلامية، أو تلك القيادات من طلاب العلم الشرعي المنعزل عن الواقع، غير المدرك لواقعه وبيئته أن وقعت الحركات الإسلامية في أخطاء فادحة، فرأى بعضهم أن الشورى معلمة وليست ملزمة فيما بينها، ونسي أولئك أن من قال من العلماء إن الشورى معلمة إنما جعله للحاكم المسلم حين كان الحاكم عالما واعيا فقيها، ومنهم من يجعل الشورى على هواه، فيجري الشورى وتخرج النتيجة على غير هوى البعض، فتعاد الشورى مرة أخرى، فلا تأتي بالمطلوب فتعاد مرة ثالثة؛ حتى تأتي الشورى بما تهوى أنفسهم، والأمر كما قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71]، فنجد أن هناك تخبطا كبيرا في المنهج، فمرة يقال هذا يخالف الشريعة، ومرة يقال: إنه يخالف الشريعة لكن ضرورة المرحلة تحتم القول به، فأضحى هناك اضطراب في المنهج، مما ينتج عنه وقوع أخطاء شرعية فادحة، فأنى ينصرون؟!
رابعا- ضعف التربية:
إن مما يلاحظ على أبناء المشروع الإسلامي قديما عنايتهم بالتربية الروحية، وحسن الصلة بالله تعالى، وصدق التدين، لكن مع الانفتاح الذي يشهده العالم، بما يموج به من أفكار هدامة، أصابت المجتمعات من دخنها إلا من رحم الله، وكان أبناء الحركة الإسلامية ممن أصابهم، وتحول كثير من النقاشات والحوارات بينهم إلى الحديث عن العمل العام، والعمل السياسي، وأضحى كل فرد داخل الحركة الإسلامية محللا سياسيا، وقل الاهتمام بتزكية النفوس وتربية الأتباع على التدين الصادق، فأصبح قصارى الدين كلمات رنانة على المنابر المتعددة ، سواء في الواقع الحقيقي، أو الواقع الافتراضي عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
وإن أولى خطوات النصر من عند الله هو النصر على النفس الأمارة بالسوء، فمن انتصر على نفسه، كان على هزيمة غيرها أقدر، ولما كانت الهزائم فادحة في ميدان النفس؛ كانت الهزائم أفدح في ميدان الواقع، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت: 69]
خامسا- حب الدنيا وكراهية الموت:
إن من أهم أسباب فشل الحركات الإسلامية في تقديم مشروع الإسلام ما داخل النفس من حب الدنيا وتسلطها وكراهية الموت، والإفراط في الانغماس فيها، وإن ربط المؤمن بالدار الآخرة لهو أكبر ضابط للنفس في إصلاحها وإصلاح من حولها، وهو ما عنى به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود عن ثوبان – رضي الله عنه – «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت”.
والإسلام لا يعادي الدنيا، لكنه يجعلها وسيلة غير مقصودة لذاتها، فمن سلك طريق الإصلاح؛ أتته الدنيا راغمة، فيجعلها مزرعة للآخرة.
وفي خضم ذلك رأى بعض الناس أن ينضم إلى تلك الحركات التي ترفع اسم الدين، لا طلبا للتدين ونصرة الدين، بل طلبا للقمة العيش، بل نجد أنه في داخل بعض الطوائف في الحركات الإسلامية أن تولي المناصب أضحى طريقا من طرق الكسب، فتوزع المكافآت والأموال على من له ولاء أكبر لقيادة تلك الحركات والجماعات، وإن كان كثير من الناس قد يستغرب أو ينكر ذلك، لكن يصدقه قول الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152]، فإن كان القرآن ينص على أن من الصحابة من كان يريد الدنيا، فليس لمتفلسف أن يأتي يدافع عن قادة حركته أنهم على درجة واحدة من الإخلاص، في الوقت الذي تهدر فيها الملايين لسوء الإدارة وغياب تقوى الله تعالى فيما أمنوا عليه، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].
سادسا- تحول السلطة من وسيلة إلى غاية:
إن من يقرأ تاريخ الأمة ليجد أن المصلحين لم يكن همهم يوما ما أن يكونوا أصحاب مناصب، وإن العلماء على مر التاريخ كانوا هم المرجع دون نظر إلى أن يكون أصحاب سلطة، بل كانوا يهربون منها، حتى إن أحدهم – كالإمام أبي حنيفة- ليعذب كل يوم ويضرب عشرة أسواط كي يجبر أن يكون قاضي القضاة أو وزير العدل باللغة المعاصرة في دولة الخلافة فيأبى؛ لعلمه أنه ما ينبغي أن يكون في هذا المنصب حسب دراسته للواقع.
لكن في ظل اللعبة الديمقراطية أضحى التنافس على المناصب مقصودا، وأضحى الوصول إلى الحكم مقصودا، بعد أن دخلوا الحلبة الغربية المسماة بالديمقراطية، ولهذا لم يكتب للتجربة الإسلامية أن تستمر، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، فإن نضوج الفكرة لم يكتمل، وإن من الحكمة والعقل أن لا يكثر التنازع، وأن يقدم أهل الصلاح ولو من غير أبناء الحركة الإسلامية في المناصب – خاصة في ظل هذه الأجواء-، وأن لا يكون الوصول للحكم مقصدا، مع وجود التقصير والضعف في التكوين والإدارة وغيرهما.
ولا يعني هذا ترك العمل السياسي بالكلية، ولكن يجب أن يكون خاضعا لميزان المصالح والمفاسد، وأن يكون وسيلة لا غاية مقصودة، وأن يقدم الترك على الإقحام أحيانا، وأن لا يقتصر العمل السياسي على أبناء الحركة ولو كانوا غير صالحين، بل يتخير الأصلح لكل منصب ولو كان من غيرهم.
سابعا- الخصومة بين أبناء التيار الإسلامي:
إن مما يعجب منه المرء تلك الخصومة بين أتباع التيارات الإسلامية، وأضحى الاختلاف الفكري مظهرا لاختلاف القلوب، والوصول إلى حد الكراهية، بل يجعله مبيحا لأن تتعاون بعض الحركات الإسلامية مع الأجهزة الظالمة ضد الحركات الأخرى، بدعوى بطلان منهجها، متناسين قوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]، وقد قيل: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
وإن كان الكل يدعي أنه أفهم للإسلام، وأكثر اتباعا للسلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فليتهم يرجعون إلى منهج السلف في قبول الخلاف، والتعاون على نصرة الإسلام، لا إذا قربت السلطات الغاشمة فريقا على آخر، هرعوا إليهم ناسين أخوة الدين، وإن الإسلام لينصر بجميع أبنائه.
خاتمة:
إنني أوقن أن كثيرا من أبناء الحركات الإسلامية ليؤمن بما قلته، بل أكثر منه، لكن ربما يعجز عن كتابته لأسباب معينة، وإن الرائد لا يكذب أهله، وإن النصح لهو دليل المحبة، فنحن نوقن ما لهذه الحركات الإسلامية من فضل على المجتمعات، وما تقوم به من جهد كبير، وإن الأمل في الله تعالى، ثم في هذه الحركات أن تصلح شأنها، وأن تقوم بدورها، مع باقي طوائف المجتمع، في شراكة وتعاون، دون تعال من أحد على أحد، امتثالا لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].