تركز غالب الكتابات في مجال الأخلاق على أخلاق الفرد، ولكن غاب عن كثير منها العناية بأخلاق المؤسسات، وربما يعود ذلك لغلبة الفردية في المجتمعات، فقد كانت المجتمعات ليست معقدة، تمتاز بالبساطة والسهولة واليسر، أما الآن، فيغلب على مجتمعاتنا المؤسسات في جميع المجالات بمستويات متعددة، فهناك المؤسسات الخاصة، والمؤسسات العامة، وهناك المؤسسات الصغيرة والمؤسسات الكبيرة، والمؤسسات المحلية والمؤسسات الإقليمية والمؤسسات الدولية، مما يجعل الأمر أكثر تعقيدا وتشبيكا مما كان عليه الحال في أزمنة كتابة الأخلاق في كتب السابقين.
ولما كان القرآن الكريم هو مصدر المعرفة الأول للإنسانية بشكل عام، وللمسلمين بشكل خاصة، كان من المهم محاولة استلهام أخلاق المؤسسات من خلال آيات القرآن الكريم باعتباره دستورا ومنهجا للمسلمين وغير المسلمين في مجالات الحياة المختلفة، بما يحقق لها السعادة والتقدم.
ونحن بحاجة إلى تأسيس وإحياء أخلاق المؤسسات من خلال التأصيل لها من القرآن الكريم، بما يفتح المجال للباحثين في تطوير الرؤية المقدمة؛ لتكون أكثر عمقا في تقديم رؤية قرآنية لمنظومة الأخلاق الحاكمة للمؤسسات في كافة المجالات العامة والخاصة.
أهمية أخلاق المؤسسات:
وذلك لعدة أسباب، منها: أهمية موضوع الأخلاق باعتباره حاكما للسلوك البشري، والحاجة إليه في جميع مجالات الحياة، وهو من الكليات الشرعية التي أجمعت عليها الشرائع، ولا يدخله اختلاف بين أصحاب الأديان السماوية، بل والمذاهب البشرية السليمة.
كما أن في الحديث عن أخلاق المؤسسة في القرآن إثبات فاعلية القرآن الكريم وصلاحيته لكل زمان ومكان، والاستفادة منه في تطوير مناحي الحياة، من خلال منظومته في الأخلاق، وذلك يحقق المساهمة في إصلاح المؤسسات من خلال الرؤية القرآنية لضبط سير حركة المؤسسات.
قيمة الإتقان:
ومن أهم تلك الأخلاق والقيم التي تعنى بالمؤسسات من خلال آيات القرآن الكريم، قيمة الإتقان، فكثير من مؤسساتنا تفتقد إلى إتقان العمل، خاصة المؤسسات الإسلامية والدعوية فهي أفقر المؤسسات إلى قيمة الإتقان، رغم حرص الإسلام كثيرا على تأصيل مفهوم الإتقان والإحسان في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فكثيرا ما تغلب على مؤسساتنا العشوائية والارتجالية، وعدم الجودة، بل نعتبر أداء العمل هو معيار النجاح!!! وقد أشار القرآن إلى تلك القيمة بقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]
المسؤولية:
ومن تلك القيم قيمة المسؤولية، وتحملها على الوجه الأكمل، وقيام كل شخص بمعرفة وإدراك ما عليه ابتداء، وعدم ترك الأمور سائحة دون رقيب، أو دون تحديد المسئول عنها، وإيجاد ما يعرف بدائرة الإنتاج، من أين تبدأ ومتى تنتهي، ومن المسئول عنها، وما المدة الزمنية المتاحة للانتهاء منها، وغيرها من معايير تحمل المسئولية.
فمن الأهمية بمكان أن تكون هناك آليات واضحة فيما يتعلق بالسلطات، وعدم التداخل بين سلطة كل قسم منها أو بين سلطات الأفراد المسؤولين عنها.
فكثير من الأهداف تضيع في المؤسسات لأننا نعرف حاجة المؤسسات إليها وندعو إلى تطبيقها، لكنها قد تترك دون تحديد المسؤول عنها، ووضع خطة لتنفيذها ومتابعتها ثم تقييمها.
الشورى في المؤسسات:
ومن أهم أخلاق المؤسسات وقيمها: الشورى، ووضع آلية لها بحيث لا يستقل أحد برأي إلا بعد الاستشارة، وهل الأمر يحتاج إلى استشارة العاملين جميعا في المؤسسة، أم أنه يختص بقسم معين، أم أنه يتعلق بإطار واحد من أطر العمل والإدارة، ولا شك أن عقل الجماعة خير من عقل الفرد في الارتقاء بمستوى المؤسسات، وقد أصل القرآن لذلك بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، قوله سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]
الرؤية الاستراتيجية:
ومن أهم قيم المؤسسات الرؤية الاستراتيجية الحاكمة للمؤسسة من حيث معرفة الغايات الكبرى، والرؤية والرسالة ومجالات العمل والخطط التنفيذية والمراحل المتعددة لعمل المؤسسة، ومعرفة جميع العاملين بها رسالتها وأهدافها بحيث يكون كل عمل جزئي يصب في تحقيق الرؤى والأهداف. وقد يستأنس لتلك القيمة بقوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]
الإدارة الحكيمة:
ومن أهم قيم المؤسسة الإدارة الحكيمة، فكثيرا ما تكون الإدارة في بلادنا إدارة متسلطة، تشعر أنها سلطان على عرشه، لا معقب لأحكامها، ولا مخطئ لقراراتها، والإدارة الحكيمة هي من تستوعب جميع القطاعات في المؤسسة، حتى تستفيد منها، ومن خلال تلك الأفكار وهذه المشاعر تستطيع أن تبني قرارها الحكيم.
ولهذا رفض النبي صلى الله عليه وسلم إمارة أبي ذر، معللا له ذلك:” إنك ضعيف، وإنما أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أداها بحقها”.
التعاون والشراكة:
ومن قيم العمل المؤسسي التعاون والشراكة والعمل في فريق، لأن العمل الفردي أشبه بالعمل في جزر منعزلة، لا تحقق غاية مرجوة، ولا توصل إلى تميز وإبداع، فالتعاون يجمع بين ثمرات تلك الجهود الفردية ليحقق بها عملا مؤسسيا متكاملا، فقد تتشارك المؤسسات فيما بينها في بعض المشاريع من خلال الاستفادة من خبرات كل مؤسسة مما عندها، وقد أشار القرآن إلى تلك القيمة بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]
التنافسية:
ومن قيم العمل المؤسسي التنافسية، فهناك تنافس بين الأقسام داخل المؤسسة فيما بينها لتقدم الأقوى والأفضل والأصلح، كما يكون هناك تنافس بين المؤسسات في ذات الناشط الواحد ليقدم النموذج والقدوة بما يعود بالنفع على المجتمع والأمة، والأمر كما قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].
محاربة الفساد:
ومن قيم العمل المؤسسي محاربة الفساد فيه، وقيامه على العدل الذي يحفظ نظام المؤسسة، فإن كثيرا من المؤسسات تملك مقومات النجاح، لكنه يفشلها ما بها من فساد، سواء كان فسادا ماليا بالسرقات والرشوة والتعامل بالربا ونحو ذلك، أو كان فسادا إداريا لسوء الإدارة وعدم الانضباط والمحافظة على نظام المؤسسات، ولهذا كان حرب الإسلام على الفساد والمفسدين كبيرا، ولذا اتحل كثيرا من الآيات في محاربة الفساد والمفسدين، من ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقوله سبحانه: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، وغيرها من الآيات.
الانتماء للمؤسسة:
ومن أخلاق العمل المؤسسي الانماء للمؤسسة، وهو من حفظ الأمانة لها، وإظهار الانتماء لها، والسعي في تطويرها وإنجاحها، وهذا يبدأ بحب المؤسسة، فإن أحب العاملون المؤسسة تولد عندهم الانتماء لها، فإن وجد هذا الشعور دفع كل العاملين بها إلى تنميتها والسعي في تطويرها، وعدم خيانتها، والمحافظة عليها، أما العمل بروح الوظيفة فإنه لا يولد تنمية ولا تطويرا للمؤسسات التي نعمل بها.
د. مسعود صبري