ولد علم أصول الفقه في القرن الثاني الهجري، وذهب جمهور العلماء إلى أن الشافعي – رحمه الله- هو أول من دون فيه، وذهب البعض – كابن النديم في الفهرست- إلى أن أول من دون فيه هو القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، على أن كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي هو أول ما وصلنا في علم الأصول.
ومما هو مشتهر في الدرس الأصولي أن أصول الفقه موجودة مع التشريع والتنزيل، كملكة ومنهجية، دون أن يستوي علما له أصوله ومباحثه.
كما أنه من المعلوم أن ميلاد علم الفقه – باعتباره علما- أقدم من ميلاد علم أصول الفقه.
وأصول الفقه هو العلم الذي يضع القواعد التي يجب على المجتهد أن يستعملها في اجتهاده الفقهي، حتى يسير على منهجية واضحة، وأن لا يكون اجتهادا ضربا من الذوق.
وقد عرف علم أصول الفقه عند المسلمين بأنه بديل المنطق الأرسطي، فهو العلم الذي يوصل إلى الاجتهاد الفقهي، للتعرف على أحكام الله تعالى من الحلال والحرام، كما أنه العلم الذي يمكن من خلاله الترجيح بين الآراء المختلفة..
وغالب كتابات الأصوليين تحصر ثمرة أصول الفقه في أنه وسيلة توصلنا إلى معرفة الحكم الشرعي، والذي يبدو لي أن هذا تضييق لوظيفة هذا العلم الشريف، فأصول الفقه، وإن نشأت في أحضان البيئة الشرعية، وقصر استعماله على الاجتهاد الفقهي، إلا أن هذا العلم بما يحويه من أدلة وأصول وقواعد وطرق للاستنباط، يجب أن لا يقتصر على الحقل الشرعي، بل يجب أن يتعدى إلى المجال الإنساني، وأن يتحول العلم أولا إلى مهارات مكتسبة، يستفاد منها في مجال التفكير السليم في جميع مجالات الحياة.
فالتمرس على مهارات علم أصول الفقه تكسب المرء التفكير الصحيح في شؤون الحياة كلها، فأصول الفقه هو (الفلسفة الإسلامية)، وهي الطريق لتكوين المفكر، فلا يكون المسلم مفكرا إلا إذا كان متشربا لأصول الفقه، ليس فقط من خلال الدراسة العادية واستظهار المقدمات والأدلة وطرق الاستنباط منها ومعرفة شروط المجتهد والاجتهاد، والوقوف عند التقليد والإفتاء ونحوها ، بل – أيضا- من خلال المعايشة الأصولية لهذه المباحث، وتحويلها من النظر إلى الفكر، ومن الفكر إلى المهارة.
ومن أهم مهارات التفكير في أصول الفقه الذي يمكن للإنسان أن يستفيد منها في حياته عامة ما يلي:
نظرية البرهان:
فمن أهم ما يميز أصول الفقه ( نظرية البرهان)، وجوهرها أن لا يكون كلام الإنسان مرسلا، بل لابد أن يأتي بالأدلة والبراهين والحجج على صحة كلامه، وهو مبدأ قرآني أصيل، تكرر كثيرا في القرآن ، كما في قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، ومثل قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]، وقوله سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]
أنواع الإدراك:
ومن المهارات التي تتعلق بأصول الفقه ويمكن الاستفادة منها في التفكير البشري أنواع الإدراك، وهذا يعني أن نقيس طريقة إدراكنا للحقائق والمعلومات، فالمعلومات التي تأتينا ليست سواء، فهناك (العلم واليقين) الذي لا شك فيه، وهو لا يقبل التشكيك، وهناك (الظن)، وهو درجات: (ظن قوي)، و(ظن متوسط)، و (ظن ضعيف)، وهذا يعني أن قبولنا للآراء والمعلومات ليس قطعيا، فنقدر الاختلاف مع الآخرين، وربما لا نوافقهم على آرائهم، ولكن نتفاهم معهم ونعرف لماذا يخالفوننا كما نعرف لماذا نخالفهم.
ومن أنواع الإدراك (الشك)، وهو التوقف في الترجيح بين أمرين، لمزيد من البحث، وهو من المهارات الاجتماعية المفتقدة في الحوار، فقل أن نسمع أحدا يقول: إن هذا الأمر يحتاج إلى مزيد بحث، بل الغالب يسارع بإبداء الرأي والانتصار له دون ترو أو تعقل أو دراسة.
ومنه أيضا: (الوهم)، وهي الطريقة التي تجعل إيصال المعلومات و معرفتها ضعيفا لا يرتقي حتى إلى درجة الظن، فالمعلومات التي تأتي عن طريق الوهم لا اعتبار لها.
تفسير النصوص:
من أروع مهارات التفكير التي تستفاد من علم أصول الفقه (نظرية تفسير النصوص)، وقد استفاد أهل القانون من تلك النظرية الأصولية في تفسير النصوص القانونية والدستورية، وخلاصة هذه النظرية وضع قواعد ليفهم منها كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ما يعرف عند علماء المقاصد بـ (مقاصد الخطاب)، وقد نشأ عن هذا بعض العلوم كعلم التفسير وعلوم القرآن وشروح الحديث.
ويمكن الإفادة من تلك القواعد في فهم كلام الناس مكتوبا أو مسموعا، فيفرق في مقاصد المتكلم بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، والصريح والمؤول، والمعتبر والملغي، والكلام الذي يحتمل التأويل والذي لا يحتمل التأويل، وغيرها من القواعد التي تجعلنا نفهم بعضنا أكثر.
الترجيح:
ومن المهارات الأصولية التي يستفاد منها في التفكير ( مهارة الترجيح)، ويستعمل الأصولي الترجيح لاختيار رأي من بين رأيين أو أكثر في الفقه في الأمور المختلف فيها.
وهذه المهارة مهمة في بيان مقصود المتكلم إن كان كلامه يحتمل أكثر من رأي، أو وجهة نظر، فنسعى إلى معرفة المقصود من خلال الترجيح بين التأويلين.
ويكون ذلك بالقرائن والأدلة والأمارات والعلامات والسياق الذي قيل فيه الكلام، والزمن الذي قيل فيه، وغير ذلك مما يحيط الكلام من أمور تجعلنا نرجح رأيا على آخر في معرفة مراد المتكلم.
التخريج:
ويقصد بها عند الأصوليين بيان حكم الله في المسائل الجديدة من خلال الأصول والمسائل القديمة.
ومهارة التخريج ذات أهمية في توليد المعاني واستنباط الأفكار والقرارات وإيجاد حلول وآراء جديدة، من خلال الخبرة التراكمية من التجارب السابقة، وهو أشبه بمنهجية أو آلة نظامية في التفكير تسمح للإنسان أن يحكم على الأشياء من خلال أصول وقواعد تفكيرية.
الاستقراء:
عرف الأصوليون والمناطقة الاستقراء بأنه تتبع الجزئيات الفرعية لقضية كلية للحكم على ذلك الكلي، وللتأكيد عليه، مثل تتبع الآيات والأحاديث التي تدل على التيسير ورفع الحرج، فنحكم بأن الدين مبني على التيسير ورفع الحرج ويصبح هذا حكما كليا.
وهذا التتبع لا يقف عند الحد الاجتهادي، بل يتعداه في القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، أو الثقافية، أو الأدبية، أو الفنية، أو في غيرها من مجالات الحياة، لمعرفة والتأكد من وجود حكم كلي نصدره على القضايا الكبرى.
التعليل:
عرف الأصوليون العلة بأنها: الوصف الظاهر غير الخفي، المنضبط الذي لا يتخلف، بحيث يلزم ترتيب الحكم عليه بأن يكون مصلحة للمكلف، سواء أكان جلب مصلحة أو درء مفسدة.
وتعرف العلة بعدة أسماء، من أهمها: السبب، والباعث والمناط والدليل والمتقضي وغيرها.
وفائدة (نظرية التعليل) أنها ضابطة للتفكير البشري، فلا يكون حكمه مبنيا على تذوق أو هوى، بل لابد من أن يكون كل فكر أو رأي مبني على أصل، وله سبب ظاهر، مما يعصم التفكير البشري من الزلل.
فهذه جملة من القواعد الأصولية التي تدلل على أن علم أصول الفقه هو علم التفكير البشري، وليس محصورا على الاجتهاد الفقهي، مما يستدعي أن يعرض العلم بوجهة نظر جديدة، لا تقف به عند الحدود الشرعية، بل تتعداها إلى الحدود العقلية، وأن يقدم بشكل أيسر مما هو عليه في الحقل الشرعي، وأن يكون على مستويات، حسب مقاصد دراسته، فهناك الأصول العامة للتفكير، وهناك أصول الاجتهاد الفقهي.