د. مسعود صبري
ابتليت المجتمعات المسلمة ب”فتنة التكفير”، من قبل بعض المجموعات المتدينة، خاصة فئة الشباب، وفي غياب استراتيجية الدول في علاج ظاهرة التكفير، بل ومساعدة بعض الأنظمة في الدول الإسلامية على تشجيع التكفير من خلال بعض السياسات الخاطئة، أضحت فتنة التكفير من أخطر الفتن التي تحيق بالمجتمعات المسلمة، وتهدد أمنها.
ورغم تعدد الأسباب والعوامل التي أدت إلى ظاهرة التكفير قديما وحديثا، من العوامل والأسباب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، لكن يبقى العامل الديني من خلال سوء فهم نصوص التكفير هو حجر الزاوية لإعادة الفهم الصحيح لقضية التكفير.
التكفير حكم شرعي:
التكفير حكم شرعي لا يمكن إنكاره، ومن ينادي بأنه لا كفر في الدين، فهو جاهل بشريعة رب العالمين، فقد أثبت الله تعالى الكفر في كتابه، كما قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، فأثبت القرآن أن الإنسان قد يتحول من الإيمان إلى الكفر، وهو بهذا يصبح كافرا خارجا عن الملة، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن التكفير بقوله صلى الله عليه وسلم:” من بدل دينه فاقتلوه”. فنفي التكفير جملة، ليس من الإسلام، وقد تحدث الفقهاء في باب سموه باب الردة، وعنون المحدثون له بأحاديث.
لكن الإِشكالية هنا، هي أن أفرادا لا علم لهم يقومون بتكفير الحاكم والمجتمع، والتكفير حق للقضاء أو لجماعة الفقهاء العلماء.
وإن كنا نقرر أن الأصل في الحكم بغير ما أنزل الله هو نوع من الكفر، عملا بأن الآيات الواردة في القرآن تجرى على ظواهرها حتى يجيء من القرائن ما يصرفها عن الظاهر[1]. ولكن ليس كل حكم بغير ما أنزل الله يكفر فاعله.
وقد ذكر العلماء أن التكفير أنواع، منه: تكفير اعتقاد، وهذا مخرج عن الملة، وتكفير عمل، وهذا عصيان غير مخرج عن الملة.
صور تكفير الاعتقاد المخرج عن الملة:
- جحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، فإن من أنكر أصلا أو فرعا مجمعا عليه، أو شيئا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مقطوعا بصحته، فقد كفر.
- الاعتقاد بأن حكم غير الله ورسوله أحسن للناس وأنفع.
- أن يعتقد أن حكم غير الله ورسوله مساو لحكم الله ورسوله.
- الاعتقاد بجواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله.
- تلفيق قوانين من شرائع شتى تكون بديلة عن الحكم بما أنزل الله.
- حكم رؤساء القبائل والعشائر بحكايات أجدادهم؛ إحياء للجاهلية، وإعراضا عن حكم الله ورسوله.
أما كفر العمل الذي لا يخرج عن الملة، فهو أن يحكم بغير ما أنزل الله تعالى؛ اتباعا لشهوته وهواه، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو الحق، مع اعترافه بخطئه، فهذا الذي قال عنه ابن عباس (كفر دون كفر)، وقوله: (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه). مع اعتبار أن هذه الصورة من الكبائر، والكبيرة لا تخرج صاحبها عن الملة.[2]
على أنه من المهم التنبيه على أن المقصود بالحكم بغير ما أنزل الله تعالى المنهي عنه، هو ما كان مخالفا لما جاء به حكم الله تعالى.
أعذار الحكم بالتكفير:
إن كان الأصل في أن الحكم على ما لم يحكم بغير ما أنزل الله أن عمله من أعمال الكفر، فإن هناك أعذارا تخرج صاحبها عن هذا الحكم، ومن أهمها: الجهل والخطأ في الحكم أو الفهم، ومنها: الإكراه، ومنها: الاجتهاد والتأويل المسموح به شرعا في حدود القواعد الشرعية.
سن القوانين وعلاقته بالكفر:
ترى بعض الجماعات أن سن القوانين الوضعية كفر.
والحق أن من الأحكام التي افترضها الله تعالى على عباده، وأوجب علينا اتباعها منصوصة في الكتاب والسنة، ومشتهرة بإجماع علماء الأمة، وهذه يجب اتباعها، وأن سن القوانين التي تخالف تلك الأحكام القطعية وتحكيمها دون حكم الله تعالى هو من أعمال الكفر بلا خلاف بين العلماء، فتحليل الحرام وتحريم الحلال، كما صنع التتار من وضع كتاب الياسق وتحكيمه حتى بعد إسلامهم، وهو كتاب مجموع من شرائع شتى دون الالتزام بشريعة الله تعالى.
وكذلك الحال بالنسبة للقوانين الوضعية المعاصرة، فقد أفتى جماعة من علماء العصر بأن تحكيمها في الدماء والأموال كفر أكبر، ومن هؤلاء العلامة المحدث أحمد محمد شاكر، والعلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ، إلى غير هؤلاء من المشايخ المعروفين بالعلم والصلاح، والاستقامة على منهج أهل السنة والجماعة، كالشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ صالح الفوزان[3].
والنوع الثاني من الأحكام، وهي الأحكام المبنية على الظن، وغالب الأحكام الفقهية من هذا النوع ، وعلى الحاكم أو القاضي أن يتخير منها ما يراه أنسب للبيئة والمجتمع وأحوال الناس وأعرافهم.
أما النوع الثالث: فهو مالم يرد به نص، وليس مجمعا عليه بين الفقهاء، فهذه محل اجتهاد.
وفي تقنين تلك الأحكام الفقهية يجوز لنا أن نقنن ما نراه مناسبا لظروف حياتنا ومجتمعنا من النوع الثاني والثالث.
كما أن الإسلام لم يجئ ليلغي كل ما سبقه من قوانين وأعراف بين الناس، وإنما كان منهجه أن يلغي ما خالف عقيدة التوحيد، وأبقى مالم يكن مخالفا لها.
ثم إن المسلمين مازالوا يستفيدون من نظم الحكم في الدول غير المسلمة، وذلك عبر العصور العديدة في الإسلام حتى يومنا هذا، خاصة في مجال الإجراءات وطرق التحاكم والتقاضي ونحوها مما لا يمكن اعتباره كفرا.
ثم إن من يكفر الدولة أو الحكومة لأنها لا تحكم بغير ما أنزل الله بهذا الإطلاق دون تفريق بين الإنكار والتعمد وبين العذر قد يوقع نفسه هو في الكفر، لأنه ليس كل إنسان يحكم بما أنزل الله تعالى في خاصة نفسه، فهو يقع في المعصية، ويخالف ما أنزل الله، فلو قيل: إن عدم الحكم بغير ما أنزل الله هو كفر مطلقا؛ لكفرنا أنفسنا وكفر المجتمع، فبان أنه كفر دون كفر، كما قال ابن عباس – رضي الله عنه-، ما أن هناك فرقا بين الحكم على الفعل بأنه من أفعال الكافرين، فكل المعاصي من أفعال الكافرين، لكن لا يكفر كل من أتى معصية، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
[1] – راجع: التطرف والإرهاب في المنظور الإسلامي والدولي، المستشار سالم البهنساوي، ص: 153-155، دار اقرأ للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى: 1427هـ= 2006م
[2] – راجع:ضوابط تكفير المعين عند شيخي الإسلام: ابن تيمية وابن عبد الوهاب وعلماء الدعوة الإصلاحية، لأبي العلا راشد بن أبي العلا الراشد، ص:232-234، طبع مكتبة الرشد، والكلام للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية، في رسالته المسماة ( تحكيم القوانين) ص: 5-8، طبع دار الوطن
[3] – راجع: فتوى: من قال إن تحكيم القوانين الوضعية كفر .. ليس من الخوارج، منشورة بموقع الشبكة الإسلامية القطرية، http://www.islamweb.net/ver2/fatwa/ShowFatwa.php?lang=A&Id=9430&Option=FatwaId