دعويةقضايا معاصرة

الخيانة بالغيب

د. مسعود صبري

جاء القرآن الكريم ليضع للناس منهجا متميزا في جميع شئون الحياة، فالقرآن الكريم لم يأت لإعمار الآخرة فحسب، بل جاء لإعمار الحياة الدنيا أيضا؛ لأن الدنيا هي مزرعة الآخرة عند المسلم الصادق. فنظم القرآن علاقة المسلم بربه من خلال العقيدة السليمة، والعبادة الصحيحة، وجعل الأصل في هذين المجالين الاتباع لا الابتداع، كما نظم علاقة الإنسان بغيره، سواء في محيط العلاقات الاجتماعية، بين الزوج وزوجته، وبين الأبوين والأولاد، وبين الرجل وأقاربه وأصدقائه، بين الفرد والجماعة، بين الدولة المسلمة والدول الأخرى، وهذه المساحة قائمة على تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد كما عبر عنها الإمام ابن القيم وغيره.

وتعتبر الأخلاق الركيزة الأساسية المحركة لسلوك المسلم مع غيره، ولهذا وجدنا معايير اختيار الزوج في قوله صلى الله عليه وسلم:” إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه، فزوجوه”، أليست الأخلاق جزءا من الدين؟ لكن الأخلاق هي همزة وصل الناس بعضهم ببعض، وهي معايير التعامل الاجتماعي، فقد يكون الإنسان دينا في نفسه، لكنه سيئ العلاقة مع أهله وأقاربه وغيرهم.

لقد أسس القرآن لعلاقة رائعة بين الناس فيما بينهم، علاقة قائمة على الاحترام والتقدير في الحضور والغياب، فالمسلم يحفظ مكانته أخيه شاهدا وغائبا، فهو أمين عليه لا يخونه، حتى لو أتيحت له فرصة الخيانة.

إن القرآن يعرض لداء عضال وهو خيانة الآخرين بالغيب، وهو ما يشبه الطعن في الظهر، فيحكي القرآن عن زوجة عزيز مصر حين فسر يوسف عليه السلام رؤيا الملك وأمر بإحضاره وخروجه من السجن، فرفض حتى يحقق في القضية التي من أجلها سجن باتهامه مراودة امرأة العزيز عن نفسها، إنه لا يريد أن يقال إن يوسف قد خرج بعفو ملكي، لأن خروجه بهذا الشكل فيه تثبيت للتهمة التي اتهم فيها وهي تهمة تتعلق بأخلاقه، فكان لابد من أن يثبت براءته أولا، لا أن يتخلص من العقوبة التي وقع فيها زورا، فيه تقديم على حفظ الدين على حفظ النفس، فصيانة الدين مقدمة على صيانة النفس في الشريعة، فقد يتحمل المرء الحبس والسجن والأذى، دون أن يخدش دينه الذي هو أعز ما يملك. وكم من أناس قدموا أنفسهم على دينهم، فلا أبقوا دنيا ولا دينا.

فلما استدعى الملك زوجة العزيز والنسوة، قال امرأة العزيز في مشهد يبين معدن أصلها وحسن أخلاقها ودليل على توبتها مما وقعت فيه من محاولة غواية يوسف عليه السلام، وهي صورة قرآنية تعلم الإنسان أن يتجرد في الحكم على الناس، فيحكم بالصواب حين يكونوا على صواب، ويحكم بالخطأ حين يكونون على خطأ، لا أن يحكم له أو عليه دوما، فقال الله تعالى: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 51، 52]

إنها كلمات تنطق بالحكمة، شرف الخلق، وأصالة النفس، وترشد المسلم إلى ركائز أساسية في أخلاقه مع الغير، وأهمها: الاعتراف بالخطأ في وجود أكبر مسئول في الدولة، مع ما قد يعرضها للسجن أو الإيذاء: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِين)، وشهادة ليوسف من خصمه الأول بأنه صادق، وفيه تبرئة المظلوم من الخصم، وهي من أشرف الأخلاق.

إنه الميزان الأصيل للحكم على الناس، فليس ارتكاب الإنسان خطأ يجعله أسفل سافلين، إن النفوس قد تضعف، وقد تقع في المحظور، لكن هذا لا يدل على خبثها مادام مؤقتا، ومادام الإنسان لم يصر على السير في طريق الضلالة.

ثم يبدو خلق الأمانة مع الغير وعدم خيانته في غيبته، رغم ما قد يتاح لها أن تخونه وتكذب وتصر على اتهامه، لكنها لم ترد خيانته بالغيب، (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ).

وكم من صديق خان صديقه بالغيب، وكم من أناس خانوا مظلومين بالغيب، فادعوا عنهم ما ليس فيهم، واتهموهم بما لم يرتكبوهم؛ زورا وبهتانا، إصابة لعرض من الدنيا، أو طلبا لجاه، أو رضا من مخلوق، متناسين حساب الخالق الذي لا يظلم عنده أحد.

إنه ليس من الرجولة أن تتأسد على أخيك في غيبته، وتتهمه بما ليس فيه، فهذا لا يحط من مكانته، بل يحط من مكانتك أنت، فكن رجلا بصدقك، ووفاء بعهد إخوانك، ولا تكن من الخائنين.

ثم يأتي التأصيل بأن الخيانة لا تفيد صاحبها مهما ظن أنها تنفعه، ومهما بدت منافع الناس الظاهرة من الخيانة، فإنها تتكسر أمام ميزان الله وعدله، وقانونه في الكون والحياة (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ).

ولذا، خاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إن كان له عهد مع أقوام يخاف خيانتهم، فليعلمهم نبذ حلفه معهم، حتى يكونوا على بينة من الأمر، {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]

إنه تأسيس لحضارة الإسلام على أهم أسسها وهي الأخلاق، التي تجعل حياة الناس سعيدة، أخلاق تؤسس لحضارة ينطوي تحتها الجميع بميزان العدل وحسن التعامل، واحترام الغير حتى لو كان خصما.

فليكن شعار المسلم مع غيره في تعامله (لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ).

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى