دعويةقضايا معاصرة

دور العلماء في النهضة الحضارية للمجتمع المدني

أ. د. مسعود صبري

يشير استعمال مصطلح (المجتمع المدني) إلى المؤسسات غير الحكومية، أي المؤسسات الأهلية والخيرية، ويشير البعض إلى أن (المدنية) هي مقابل العسكرية، والحق أن (المجتمع المدني) لا يقابل ( المجتمع العسكري) في الاصطلاح، وإنما يقابل (المؤسسات الحكومية)، ولكن وصف (المدنية) مستقلا، هو الذي يقابل وصف (العسكرية).

وهذا يعني أننا لسنا بصدد الحديث عن تكوين المجتمع في الإسلام، بل لمعالجة مصطلح له دلالاته الاصطلاحية والعرفية، وهو تسليط الضوء على النشاط المجتمعي في جميع مجالات الحياة غير الحكومية والرسمية.

وإن كان كثير من الباحثين يشيرون إلى ظهور المصطلح في سبعينات القرن الماضي، إلا أن هذا الظهور هو ظهور اصطلاحي، وليس ظهورا للفحوى والمحتوى، وذلك أن المجتمع المدني ولد مع ميلاد المجتمعات، وتكوين الدول التي تكونت منذ آلاف بل ملايين السنين، فحين نتحدث عن المجتمع المدني في الإسلام، فنعني به المؤسسات العلمية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها دون أن يكون لها طابع رسمي، ودون أن تندرج تحت سلطة الدولة من حيث النشأة، وإن كانت تخضع مؤسسات المجتمع المدني إلى رقابة الدولة، فهي لها استقلالها الخاص بها من حيث النشأة والنشاط، لا من حيث الرقابة.

ومعالم المجتمع المدني أن يكون مستقلا عن  المؤسسات الرسمية للدولة، وإن كان للدولة حق الرقابة عليه، وأن يغلب على هذه المؤسسات أن تكون تطوعية، وأن تقوم على خدمة المجتمع حسب تخصصها (السياسي أو الاجتماعي أو العلمي أو الاقتصادي)، وهي في ذات الوقت تساعد الدولة في قيامها ببعض الأدوار المكملة التي قد تعجز المؤسسات الرسمية عن القيام بها، يعني أن مؤسسات المجتمع المدني ليست منافسة للمؤسسات الرسمية، بل مكملة ومساعدة لها، لأنها تقوم على الفعل الطوعي وليس على قوة القانون والإجبار، وأبرز مثال حي اليوم على مؤسسات المجتمع المدني هو (الجمعيات الخيرية والأهلية)، وما تقوم به من أدوار في التنمية في المجتمعات محليا أو إقليميا أو عالميا.

لقد كان علماء الإسلام – على طول تاريخه- حريصين على أن يكون دورهم في ظل (المجتمع المدني) بعيدا عن السلطة، ولهذا وجدنا كثيرا منهم يرفضون تولي المناصب تحت مظلة المؤسسات الرسمية؛ إذ يعلمون أن دورهم الأصيل في ظل المجتمع المدني، وذلك أن وظيفة العلماء (وراثة النبوة)، ووراثة النبوة تعني  التوجيه الأمثل للمجتمع دون مطمع في منصب أو جاه، وإنما استقامة الناس على صراط الله المستقيم هو الغاية والمقصد عند العلماء الربانيين، وحتى لا يزاحموا أهل الدنيا مناصبهم، وهذا لا يعني أن تكون الدولة ليست قائمة على أمر الله تعالى، بل الحديث عن طائفة معينة من المجتمع الذين هم العلماء ودورهم في المجتمع.

وعندي ليس بصواب القول: إن يوسف عليه السلام طلب الحكم لنفسه، كما في قوله تعالى: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، لأن الاستدلال بهذه الآية يقطعها عن سياقها السابق، وهو قوله سبحانه وتعالى على لسان ملك مصر آنذاك: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]، فقول الملك: أستخلصه لنفسي، أي أستعين به، فيكون مستشارا لي في حل المعضلات والمشكلات، فلما طلبه الملك؛ اختار يوسف – عليه السلام- المكان الأمثل الذي يليق به، بمعنى أنه لا يمكن له رد طلب الملك، فلما علم أنه مطلوب؛ اختار الوظيفة المناسبة، فالاستدلال هنا هو أن لا يولى أحد مكانا لا يصلح له.

حرص العلماء على المشاركة المدنية:

لم يحفظ عن علماء المسلمين أنهم اعتزلوا الحياة الاجتماعية، بل كانوا هم رأسها وقادتها، من خلال توجيه المجتمع المسلم إلى الالتزام بأحكام الله تعالى والرؤية الكلية للشرعية للحفاظ على المجتمع المسلم ملتزما بالأحكام، مترابطا فيما بينه، منتجا للحضارة الإسلامية.

ولهذا، فإن الدارس للمجتمعات الإسلامية من خلال (المجتمع المدني) سيجد أن أبرز الطوائف المؤثرة فيها هم العلماء والدعاة، بل إن كثيرا من مؤسسات المجتمع المدني تقوم على مرجعية العلماء، سواء بالأشخاص أم بالأفكار الدعوية والعلمية.

ذلك أن جميع الناس يحتاجون إلى العلماء، والعلماء الربانيون لا يحتاجون إلى أحد.

وقد تنوعت وظائف العلماء في المجتمع المدني تنوعا كبيرا، مما كان له أثر هائل في تماسك المجتمع والحفاظ على وحدته، وجعل المجتمع المدني في الإسلام مجتمعا فاعلا ذا أثر عظيم في الحياة العامة في المجتمعات الإسلامية والإنسانية.

ومن تلك الأدوار:

أولا- الحفاظ على التدين في المجتمع:

فمن أهم أدوار العلماء في المجتمع المدني السعي إلى إرشاد الناس لحفظ دينهم وتدينهم، فعلم العلماء هو الحاكم على المجتمع، لا لأنه صادر منهم، ولكن لأنهم يبلغون عن الله تعالى..

ولهذا قال الآجري عن حاجة طبقات المجتمع للعلماء  في كتابه: (أخلاق العلماء (ص: 16- 17): ” ما ورد على إمام المسلمين من أمر اشتبه عليه، حتى وقف فيه فبقول العلماء يعمل، وعن رأيهم يصدر، وما ورد على أمراء المسلمين من حكم لا علم لهم به فبقولهم يعملون، وعن رأيهم يصدرون، وما أشكل على قضاة المسلمين من حكم، فبقول العلماء يحكمون، وعليه يعولون، فهم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ”.

فالوظيفة الأولى للعلماء هي هداية الخلق إلى الخالق، كما قال تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]، وقوله سبحانه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]

وذلك من خلال:

  • الحفاظ على عقيدة الناس وبيان ما يؤثر في صحتها من الشرك والرياء، والتأكيد على وحدانية الله تعالى، ومراقبته سبحانه  في السر والعلن.

وفي الفقه الأبسط (ص: 82): قال أبو حنيفة رضي الله عنه: الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير.

  • إمامة الناس في الصلوات في المساجد، وما يكون لها من أثر في جمع وحدة المسلمين صفا واحدا، وتعبيدهم لربهم، وبما ينعكس ذلك على نفوس المصلين في سلوكهم في المجتمع.
  • قيامهم بالوعظ والإرشاد والدعوة في خطب الجمعة وفي دروس العلم في المساجد؛ بما يرقق قلوب الناس ويكسبهم الخشية من الله، على أن يقتصد العلماء في الوعظ ولا يكثروا على الناس منه، كما ورد في الصحيحين كان ابن مسعود – رضي الله عنه – يذكرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتخولنا بها مخافة السآمة علينا.
  • بيان الأحكام الشرعية والفتاوى فيما يقع للناس من مسائل مستجدة ونوازل مدلهمة؛ فكان الناس يلجئون إلى العلماء لبيان أحكام الله تعالى في تلك المسائل النازلة. كما قال الإمام ابن القيم في (إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 8):  ” فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام؛ فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء”.
  • الاهتمام بالأخلاق والسلوكيات، فدور العلماء سوق الناس إلى أخلاق الإسلام، كما قال الله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63].

ولهذا وجدنا عناية العلماء بالأخلاق عناية فائقة، فقد كتب الإمام أحمد وهناد بن السري تلميذ وكيع بن الجراح كتابيهما عن (الزهد)، وكتب الحارث المحاسبي في الوصايا وأدب النفس ورسالة المسترشدين، وكتب الإمام البخاري (الأدب المفرد)، وكتابات ابن أبي الدنيا تكاد تكون كلها في الأخلاق والتزكية، وكتب الخرائطي عن (مكارم الأخلاق)، و (مساوئ الأخلاق)، وكانت عناية الإمام الآجري بأخلاق العلماء وأهل القرآن أكثر من غيرهم، ولأبي طالب (قوت القلوب)، وللغزالي (إحياء علوم الدين)، كما كتب الحليمي (ت:403هـ) عن الأخلاق في كتابه (المنهاج في شعب الإيمان)، ومازالت الأمة من خلال علمائها يكتبون عن الأخلاق في الكتب ويتحدثون عنه في الدروس المسجدية وفي اللقاءات الإذاعية والفضائية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي عن الأخلاق إلى يومنا هذا، بل سيبقى إلى أن يقوم الناس لرب العالمين.

 

ثانيا- حفظ العقد الاجتماعي:

وكان من أهم أدوار مؤسسة العلماء في المجتمع المدني الحفاظ على العقد الاجتماعي للمجتمع، حتى كان المجتمع المسلم- إلى عهد قريب- هو أشد المجتمعات تماسكا، ولا يزال إلى يومنا هذا، رغم ما أصابه من عطب..

وكان دور العلماء في الحفاظ على العقد الاجتماعي من خلال ما يلي:

بيان منهج الإسلام في الحياة الزوجية والعلاقة بين الزوجين:

 وتقدير الحياة الزوجية، وبيان بناء تلك الأسرة على التقوى، كما في حديث ” إذا جاءكم من ترون دينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض”، وأن الأسرة قائمة على المسئولية من كلا الطرفين، كما في الحديث: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”، وأن بناء الأسرة يقوم على الحب والمودة والرحمة، كما قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]

التأكيد على بر الوالدين وتماسك الأسرة بين الأبناء والآباء:

 ولهذا حرص العلماء على تربية المجتمع على بر الوالدين، وقيام الوالدين بواجبهم تجاه أبنائهم، وقد قال ابن عباس: – رضي الله عنهما- كما في (الأدب المفرد للبخاري، ص:3) : إنّي لا أعلم عملا أقرب إلى الله- عزّ وجلّ- من برّ الوالدة”. بل يصل فكر العلماء في أن الإنسان مهما بلغ من بره بأبويه فلن يوفيهما حقهما، كما ورد في (الأدب المفرد للبخاري، ص:4)  قال أبو موسى الأشعريّ- رضي الله عنه- شهد ابن عمر- رضي الله عنهما- رجلا يمانيّا يطوف بالبيت حمل أمّه وراء ظهره يقول: إنّي لها بعيرها المذلّل … إن أذعرت ركابها لم أذعر ثمّ قال: يا ابن عمر أتراني جزيتها قال: “لا، ولا بزفرة واحدة”.

 الفصل في الخصومات الاجتماعية بين الزوجين وبين العوائل وبين أفراد المجتمع:

فقد كان العلماء قديما- ولا يزالون- يأتي إليهم الناس للفصل في الخصومات الاجتماعية، وإيجاد صلح بين المتخاصمين، سواء على مستوى الأسرة، أو على مستوى المجتمع، وكان دور العالم هو (المصلح الاجتماعي)، وليس الإمام الذي يصلي بالناس، أو الواعظ الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر دون أن يتعدى دوره المسجد، بل عبر التاريخ، كان العلماء يُدعون إلى البيوت ومجالس الناس العامة خارج المسجد؛ للصلح وحل المشكلات.

وذلك التماسك الاجتماعي الذي سعى إليه العلماء، إنما جاء من دستور النبوة المباركة كما أخرج أحمد بسند جيد وأبو يعلى والبزار: ” المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه” .

 التأكيد على سمو العلاقة بين الحاكم والرعية، وبيان الحقوق والواجبات بين الطرفين.

فمن الأدوار التي قام بها العلماء على مر التاريخ بيان سمو العلاقة بين الحاكم والرعية، وأن العلاقة قائمة على العقد الاجتماعي الذي يراعي فيه كل طرف الحق والواجب، وأن الحاكم هو سيد الرعية القائم على مصلحتها، المحافظ على دينها وعقيدتها ومصلحتها الدنيوية والدينية، وأن الرعية واجب عليها طاعته فيما أمر، في غير معصية الله تعالى، وأن العلماء لا ينازعون الحكام أمرهم، بل هم بمثابة المستشارين لهم في بيان هدي الإسلام في الوقائع والنوازل، والنصح بالحكمة والموعظة الحسنة.

ولهذا قال الإمام ابن فرحون في كتابه (تبصرة الحكام) (2/ 137):

والسياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشرع يحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرا من المظالم، وتردع أهل الفساد ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية، فالشرعية توجب المصدر إليه والاعتماد في إظهار الحق عليها، وهي باب واسع تضل فيه الأفهام وتزل فيه الأقدام، وإهماله يضيع الحقوق ويعطل الحدود، ويجرئ أهل الفساد ويعين أهل العناد.

والتوسع فيه يفتح أبواب المظالم الشنيعة، ويوجب سفك الدماء وأخذ الأموال بغير الشريعة”.ا.هـ

وقد كان من شأن العلماء التلطف مع الحكام وإنزالهم منزلتهم الواجبة، وتقديرهم بما يليق بمقامهم من الحكم، غير منافقين ولا متزلفين، فمقصود العلماء قيام الخلق حكاما ومحكومين على أمر الله تعالى، والدعوة إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمروا.

 الحفاظ على حقوق الأقليات غير المسلمة في المجتمع المسلم:

 وبيان حقوق تلك الأقليات على المجتمع المسلم، مما حفظ المجتمعات المسلمة من التحارب أو الكراهية بسبب الاختلاف في الدين. ولقد بلغ حرص العلماء على تماسك المجتمع أن عدوا الاعتداء على الجار غير المسلم بغير حق كبيرة من الكبائر، فقد ذكر الإمام ابن حجر الهيتمي في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 422): أن من الكبائر ” إيذاء الجار ولو ذميا كأن يشرف على حرمه أو يبني ما يؤذيه مما لا يسوغ له شرعا”.

ودستور العلماء في ذلك قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الممتحنة: 8، 9]

ثالثا- الحفاظ على الهوية في الحياة الاقتصادية:

لم يكن دور العلماء- على مر عصور الإسلام- وقفا على الوعظ والإرشاد في المساجد والمحافل العلمية فحسب، بل ارتبطت رسالة العلماء في المجتمع المدني ارتباطا وثيقا في مناحي الحياة، بما في ذلك المجال الاقتصادي، ذلك أنه كما قرر العلماء بداية من الجويني والغزالي ومرروا بالعز ابن عبد السلام، ثم الإمام الِشاطبي ومن بعدهم ممن تكلموا في مقاصد الشريعة، أن من المقاصد العظمى التي جاء الإسلام لتحقيقيها ( مقصد حفظ المال)، والناظر إلى كتابات العلماء في تراثهم ليجد أن الاقتصاد احتل مرتبة كبيرة في تراثهم منذ بدايات التصنيف، فالإسلام قد جاء بنظرية كبرى في الاقتصاد، والتي تمثل مجموعة المبادئ والقيم الكبرى التي تنظم الحركة الاقتصادية والنشاط الاقتصادي في المجتمع المسلم بناء على منهج الشريعة من الكتاب والسنة واجتهاد الفقهاء، وليس المقصود بالاقتصاد الإسلامي أحكام المعاملات المالية، فحسب، بل النظرية الكلية للاقتصاد من خلال فلسفته العظمى من كون المال مال الله والإنسان مستخلف فيه، وأنه محاسب عليه أمام الله (من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، بالإضافة إلى أصول الاقتصاد من الإنتاج والموارد والاستثمار والتنمية وغيرها من أصول الاقتصاد الإسلامي، الذي يوصل المجتمع المسلم – ليس إلى حد الكفاية- بل إلى حد الإغناء والاكتفاء؛ ليقضي على الفقر والجوع والمرض في حياة المسلمين، ولتكون حياتهم طيبة في الدنيا، كما ستكون طيبة في الآخرة.

وقد تمركزت نظرية العلماء في الاقتصاد من خلال:

  • بيان رؤية الإسلام في الاقتصاد والمال..
  • الحث على العمل والإنتاج.
  • البعد عن المعاملات المحرمة التي تضر بالاقتصاد.
  • بيان البدائل الشرعية في وجوه المعاملات المالية.
  • ضبط العقود المالية بين الناس.
  • التأكيد على حفظ المال في المجتمع وأهميته، واحترام الملكية المالية.
  • التشجيع على دور المال في حفظ المجتمع، من خلال النظم الاقتصادية، وعلى رأسها (الوقف والزكاة والميراث وغيرها من المعاملات المالية)

رابعا- الحياة العلمية والثقافية:

تمثل الحياة العلمية والثقافية المرجعية الفكرية لأي مجتمع، والتي يكون لها الأثر الكبير في تشكيل (العقل الجمعي)، والذي يمكن من خلاله رسم الصورة الذهنية عن أي مجتمع حسب معطياته الفكرية والثقافية.

ولهذا، فإن الأمم المتقدمة تحرص دائما أن تكون لها مرجعية فكرية، تقوم الدولة على خدمتها وتفعيلها في جميع مناحي الحياة، ولهذا أمر الله تعالى العلماء أن يكونوا ربانيين، أي يربون الناس على منهج الله بعد أن يلتزموا به، وأن يجعلوا العلم شعارهم، كما قال تعالى:  {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، وهنا ربط بين العلم والتربية.

ولقد كان للعلماء دور كبير في تشكيل الحياة العلمية والثقافية والهوية الفكرية للأمة،

وذلك من خلال:

  • التثقيف العام للمجتمع، من خلال حلق العلم الموجودة في المساجد، ثم تطور الأمر في المدارس، وكذلك المدارس الفقهية في المذاهب الأربعة، والمدارس العلمية المتنوعة، وصولا إلى الجامعات والمعاهد.
  • إدارة المدارس والمؤسسات التعليمية المتنوعة، والتي لم تقف عند التثقيف الشرعي فحسب، بل تعدتها إلى العلوم التجريبية الأخرى، وقد شهدت المدارس الإسلامية علماء موسوعيين، جمعوا بين علوم الشريعة والعربية، مع العلوم التجريبية الأخرى، كالطب والفلك والحساب وغيرها.
  • تكوين أجيال من العلماء تقوم بالدور من خلال ما يعرف بـ” التوريث“، فيظل الطالب في درسه يتعلم من شيخه، فإن نال حظا من العلم جعله شيخه يعلم غيره ممن هم دونه، ثم يستمر هو في التعلم من شيوخه، ولا يجلس للفتوى أو يتصدى لها إلا بعد إجازة شيوخه.
  • العناية بالتأليف والتصنيف حتى بلغت حد الكثرة الكاثرة في جميع الصنوف من العلوم، بين الموسوعات الضخام، والكتب الكبار، والرسائل الصغيرة، وقد تنوعت العلوم عند المسلمين، وبرعوا في العلوم التي تتعلق بالشريعة، كالتفسير والقراءات وكذلك الحديث والفقه، وعلوم اللغة بفروعها، كما برز عندهم أيضا العلوم العقلية خاصة بعد حركة الخليفة محمد المأمون في الترجمة، فظهرت علوم الفلسفة والمنطق، وكذلك العلوم التجريبية كالطب والكيمياء والفلك والرياضيات وغيرها من العلوم.

على أن دور العلماء في المجتمع المدني لم تكن في حقبة معينة من الزمن، بل ما زال العلماء والدعاة يقومون بدورهم في قيادة الحركة الاجتماعية في المجتمعات المسلمة من خلال المجتمع المدني، بما في ذلك المؤسسات العلمية الخاصة، وكذلك الجمعيات الخيرية والجمعيات الأهلية والمبرات وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني في كافة مناحي الحياة، بما يمثل امتدادا للتأصيل الشرعي وفلسفة الإسلام في قيام العلماء بدورهم في النهوض الحضاري بالمجتمع المدني.

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى