د. مسعود صبري
في العالم الذي نعيش فيه، حيث تطورت وسائل الإعلام، وأصبح الإعلام سلطة من السلطات بما يمتلك من توجيه الرأي العام نحو ما يصبو، يظل الناس في خطر على عقولهم وأفكارهم، فبعض المؤسسات الإعلامية أصبحت خطرا يهدد العقول، فالصنعة الإعلامية لها تأثير كبير على مجريات الأمور الآن في بلاد العالم، سياسيا، واقتصاديا، وفكريا وثقافيا، وفنيا، واجتماعيا، بل أضحت الصنعة الإعلامية تطال كل الأماكن في ربوع الأرض، ويجلس الإنسان- إلا من رحم الله- أمامها مستسلما لكل ما تقول، حتى أضحت – عند كثير من الطوائف- مصدرا مصدقا دون تفكير، فإن راجعت شخصا عن شيء مستغرب قاله، يرد عليك بكل ثقة: لقد أذيع في الفضائيات!! وكأن الفضائيات الآن هو الشيخ الثقة الذي لا يكذب، أو أنها ولي من أولياء الله الصالحين!!
من هنا نبه القرآن على خطر الكلمة، ووضع معايير لقبول الكلام المنقول، فليس كل ما ينقل لك صحيحا، خاصة مع طفرة التكنولوجيا التي نعيشها، والتي من خلالها يمكن للإنسان ” فبركة” كثير من الأمور بكل سهولة ويسر، وكأنها حقيقة مسلم بها.
ومن أهم تلك المعايير التي وضعها القرآن الكريم في قبول الأخبار المنقولة إلينا التأكد والتثبت من صحة المنقول من خلال معرفة الشخص الناقل، فأخلاق الناقل للخبر هو أحد المعايير المهمة، لا يستوي فيه الصادق والكاذب،، فمن يشتهر بالفسق وعدم التدين؛ لا يقبل منه خبر، إلا بالتثبت والتروي، ولا يعني هذا رفض كل ما ينقله، بل يكون الأصل هو الشك وعدم القبول إلا بالدليل والحجة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، فنبه القرآن على أن نبأ الفاسق غير مقبول، وفي سبب النزول الآية ورد أنها نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى بني المصطلق مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع القوم به تلقوه تعظيما لله تعالى ولرسوله فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم، فرجع من الطريق إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهم أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقالوا: سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى، فبدا له في الرجوع، فخشينا أن يكون إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} يعني الوليد بن عقبة.
فانظر كيف أن خبرا كاذبا كاد أن يحصل به حرب وقتال، وهكذا حال الأخبار والإعلام اليوم، فكثير ممن يمتهنون مهنة الإعلام لها خير فيهم، فهم كذبة، يتعمدون الكذب لأجل أغراض خبيثة، مما يجعل الناس تسيء في آخرين، فيحكمون عليهم خطأ، فيأثمون بذلك عند الله تعالى، كما قال سبحانه: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).
وانظر كيف جعل الله تعالى عاقبة تصديق الكاذبين في الأخبار الندم على تصديقه، لما يترتب على تصديق كذب الأخبار من المساوئ والأضرار، وتفكيك المجتمع، وشق صف وحدته، وتفريق الإخوة والأصدقاء والأهل والجيران، ويصبح القوم أقواما، والشعب شعوبا، والأمة أمما، فيضعف المجتمع، وتتهاوى الحضارات، وتتوقف الأمة من مسايرة الركب، وتضيع الحقوق، كل ذلك بسبب الأخبار الكاذبة، وعدم تثبت الناس مما ينقل لهم من أخبار.
وعدم تصديق أخبار الفاسقين المذكور في الآية، يفهم منه تصديق أخبار الصالحين، فالأصل أن الإنسان الصالح يصدق خبره، إلا إذا ثبت خلاف ذلك، لكن الناس الآن ما عادت تفرق بين الصالح والفاسق، واستوى عندهم كل إنسان ظهر على الشاشة، وجلس على كرسيه يحدث الناس من وراء تلك الشاشات، ولهذا، فإنه كان من منهج المسلمين الأوائل ما يعرف بعلم ” الجرح والتعديل”، وإن كان هذا العلم خاصا بمعرفة صحة الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن قواعد الجرح والتعديل تصلح قواعد لمعرفة الصادقين من الكاذبين، لنعرف ممن نأخذ الأخبار مصدقين إياهم، ممن لا نقبل منهم ولا نصدقهم من الكاذبين، فإن بعض الإعلاميين أشبه بسحرة فرعون، يخيلون للناس ما هو مقطوع بكذبه واستحالة تحققه عند العقلاء للناس أنه من الحقائق الظاهرة، والآيات الباهرة!
فإياك أن تسلم رأسك لأحد أيا كان، ودرب نفسك على العقل الناقد، وانظر بقلبك وعقلك فيما ينقل لك من أخبار وأقوال، وزنها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج الصالحين، وأعمل عقلك، فإن إعمال العقل من أشرف الأعمال، وقد قال عمر رضي الله عنه: «حسب المرء دينه، وأصله عقله، ومروءته خلقه. وقال ابن مسعود – رضي الله عنه-: «ما أوتي رجل بعد الإيمان بالله عز وجل خيرا من العقل
وقد قال الشاعر:
نسب ابن آدم فعله … فانظر لنفسك في النسب
حسب ابن آدم ماله … إن طاب طاب له الحسب
زين ابن آدم عقله … والعقل زينته الأدب».
وقد ورد عن ابن مسعود – أيضا- قوله: “لا يتبعن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر”، فلابد من إعمال العقل بميزان الشرع فيما ينقل لنا من أخبار، حتى لا نقع تحت طائلة وعيد الله تعالى: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، لأنه سيكون ندم لا يوم لا ينفع الندم. فالإسلام دين الشرع والعقل، جعلهما صنوان، لا يختلفان، فزينوا العقول بحفظها مما يدنسها، كما تحفظون أجسادكم من أدرانها، ، فطهارة العقول واجبة كطهارة الأبدان.