دعويةقضايا معاصرة

غياب العلماء وحضور الدهماء

د. مسعود صبري

من أخطر المظاهر التي تموج بها الأمة اليوم هو سكوت العلماء الثقات عن بيان الحق الذي أوجبه الله تعالى عليهم بيانه، كما قال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]، وظهر من العلماء من سار في ركاب الظلم وهو يعلم يقينا بذلك، وأن هذا ليس منهج الكتاب والسنة، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]، فيفتنون الناس بما خالف صريح النصوص، فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، كذبا وافتراء عليه، وقد علموا أن الله تعالى نهاهم عن ذلك في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].

وفي مقابل هؤلاء قام بعض العلماء وطلبة العلم متأثرين بالواقع المرير للأمة، فقرؤوا ظاهر النصوص دون إدراك لمقاصدها ومآلاتها، يفتشون في بطون الكتب عما يسند آراءهم وميولهم السياسية والحزبية؛ كردة فعل لفسقة العلماء، ولم يكن عن اجتهاد منصف، أو رأي مترو، وقد نهي عن أن يحكم القاضي وهو غضبان، فإن الغضب يذهب الحكمة من عقول الحكماء.

أما كثير من ثقات العلماء الذين رسخت في العلم أقدامهم، فسكتوا، إما خشية الفتنة والابتلاء، أو خشية أن ينالهم نصيب من وابل الاتهام بالتخذيل وعدم مناصرة الحق الموهوم، فهم واقعون بين خوف التنكيل والتعذيب وبين خوف الازدراء من صادقي النية أنهم عن الحق سكتوا.

وفي ظل هذه الأنواع المتباينة من العلماء، قام عوام الناس وآحادهم بدور العلماء، فأقحموا أنفسهم في شأن الدماء المعصومة، والحكم على الأشخاص والناس والعلماء ، ففسقوا وبدعوا، واتهموا كل من لم يقل بقولهم أنه فاسق مبتدع، أو مارق عن منهج الدين، وهم يرون أنفسهم ينصرون الدين بهذه الكلمات الحماسية، ويرونها مواقف بطولية، ولا يدري هؤلاء المساكين أنهم وقعوا في معصية الله التي منها أرادوا الفرار، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].

وفي مقابل هذا الصنف من العوام، خرج صنف آخر ماتت ضمائرهم، وضعفت عقائدهم، يصفقون لهم من يزين للباطل وسفك الدماء المعصومة، ويرون ذلك مما لا بد منه، فماجت الأمة في بحار الأهواء، واختلط الحابل بالنابل، وأصاب الناس الفتنة العمياء، وترك الحليم في هذا الخضم حيرانا.

وكانت من نتائج تلك الفتنة من النطق بالباطل تشددا وانحلالا، وسكوت الثقات من العلماء عن الحق، أن رق الدين في نفوس الناس، وقلة هيبة العلماء، فوجدنا سب العلماء في كل ميدان، وسمح لأهل الفسق والفجور أن ينشروا ما خالف المعلوم من الدين بالضرورة، وخرج الفساق على ثوابت الدين، فنادوا بأن العري أفضل عن النقاب، وأنه لا دليل على وجود الحجاب، وأنه يحق استئصال النفس البشرية من الوجود لأجل خلاف سياسي، فانشغل الناس بالمتابعات على الشاشات والفضائيات، فيقضون في متابعاتها الساعات والساعات، وقل زائرو المساجد، وندرت حلقات العلم، والالتفات حول العلماء والنهل من معين علمهم، وأضحى كل فرد في الأمة سياسية محكنا، لا هم له إلا أن يحلل الوقائع والأحداث، وأن يدلي بصوته على تلك المنابر في برامج يقصد منها إلهاء الناس عن الدين، وأن ينشغل الناس عن أدوارهم الحقيقية، إلا أن يتحول مجتمع المسلمين كلهم إلى ساسة محللين، ونطق الروبيضة كما تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم، فتكلم العامة والدهماء في شأن أهل الحل والعقد والمتخصصين، بل تساوت الرؤوس بين من لا يحسن أن يكتب اسمه وبين الأساتذة المتخصصين، والدكاترة الباحثين، فالكل متاح له أن يتكلم ويسمع له عبر الفضائيات ووسائل التواصل، وأضحى كل شخص له جمهور، دون أن يكون لهم مرجعية.

ولقد كانت الأمة في تاريخها منذ نشأتها يقود الرأي فيها العلماء والمفكرون وأصحاب الرأي، أما الآن، فيقودها الإعلاميون، وغالبهم ضحل الثقافة، والأغلب منهم لا يراعي دينا ولا دنيا، إلا من رحم الله.

وإن هذه الأمة لن تصلح إلا بقيادة العلماء لها، ونقصد بالعلماء  العلماء الربانيين في جميع التخصصات والمجالات، الذين لا هم لهم إلا رفعة الدين وصلاح الأمة، سواء أكانوا علماء في الشريعة أو في السياسة والاقتصاد وغيرها من علوم الحياة، وأن ينزل العوام منزلة الطلاب من العلماء ينهلون من علمهم، ويهتدوا بهديهم، وإن قيادة الحركات السياسية على اختلاف مشاربهم للأمة لهو مما يحتاج إلى إعادة نظر، ولا يعني هذا الطعن فيهم، ولكن أن تكون قيادة الأمة أحزابا سياسية، وأن يقتصر دور العلماء على دورس العلم التي قلت، وخطب الجمعة التي مل الناس مادتها، فهذا نذير خطر، وإن من أهم مقاصد أعدائنا تقليل شأن علماء الأمة فيها، وأن يقودها الدهماء والجهلة.

وليتنا تعلمنا من أعدائنا أنه لا يقود المجتمع إلا من أحسن وأتقن، ووضع مصلحة أمته ووطنه فوق جميع المصالح، وإن العلماء بما عرف عنهم على طول تاريخ الأمة أنه لا مطمع لهم في حكم أو مناصب، وإنما هم مرجع الناس جميعا، يضبطون حركة المجتمع وفق الرؤية القرآنية والحكمة النبوية، غير أن مجتمع العلماء باعتبارهم مرجعا للناس جميعا حاكمهم ومحكومهم يحتاج إلى إعادة وإحياء..

وهي دعوة للعلماء المخلصين الربانيين أنه آن الأوان أن تتحملوا المسئولية التي وجبت عليكم، دون منافسة لأحد في منصب دنيوي، فعمل العلماء هو حفظ الدين وتوجيه الناس للالتزام منهج الله في الحياة.

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى