مراجعة فقهية لبيان مجمع البحوث الإسلامية
حول اقتحام السفارة الإسرائيلية
د.مسعود صبري
جاء بيان مجمع البحوث الإسلامية على لسان أمينه العام الشيخ علي عبد الباقي حول اقتحام السفارة الإسرائيلية يغلب عليه الرؤية الشخصية، وإن حاول أن يصبغها بالصبغة الشرعية.
وحين ينسب البيان إلى مجمع البحوث الإسلامية، فمن اللازم بيان الرؤية الشرعية أولا، ونعني بالرؤية الشرعية بيان الحكم الشرعي من التظاهر حول السفارة وإسقاط العلم الإسرائيلي، واقتحام ملحق السفارة الإسرائيلية، بمعنى أن يحكم على الفعل بأحد الأحكام الشرعية الخمسة، من الوجوب، أو الندب، أو الحرمة، أو الكراهة، أو الإباحة، وهذا من باب التوصيف الشرعي أولا، ثم للمجمع بعد بيان الحكم الشرعي أن يبين وجهة النظر التي قد تخالف الحكم من حيث الأصل، لما قد يعرض من أمور.
وقد جاء غالب البيان بعبارات إنشائية وليست عبارات شرعية، بل لم نجد في البيان استشهادا بآية أو حديث، وإنما هو عبارة عن مقال إنشائي صرف، هذا من حيث الشكل العام.
أما من حيث الرؤية الشرعية التي جاء في نهاية البيان من أن “الإسلام يؤكد دائما على العهود وحفظ أمن من يقيمون في الوطن من أي دولة أخرى، وهو ما يعبر عنه اليوم بالمسئولية الدولية“، وإن ذيل ذلك بأن ذلك لا ينافي المطالبة بطرد السفير الإسرائيلي من مصر أو قطع العلاقات.” فالقول بوجوب المحافظة على العهد من دولة الكيان الصهيوني خطأ من الناحية الشرعية، فهو اجتهاد خاطئ ، ويجب التفريق بين ما يوجبه الشرع، وبين وجوب الاتفاقيات التي يوجبها القانون الدولي، والتخوف من مساءلة مصر قانونيا، لأن مفادى الكلام أن كل من يأتي بعمل يخالف خرق الاتفاقية مع الكيان الصهيوني يكون آثما عند الله تعالى، وهو كلام لا حظ له من الشرع، بل هو يخالف أحكام الدين الموجبة للجهاد وصد الاعتداء والعدوان وجهاد اليهود المقيمين بفلسطين حتى يخرجوا منها، وهو حكم أجمع عليه علماء الأمة، فاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل ليست ملزمة شرعا، وإن كانت ملزمة قانونا.
كما أنه من الناحية القانونية، فإن عددا من المحامين وأساتذة القانون الدولي يرون أن ما حصل من أحداث السفارة لا يلزم مصر بالمساءلة القانونية الدولية؛ لأن ما يحصل في مصر ظرف استثنائي من قيام الثورة وما تعيشه مصر من توابعها، مما يجعل خطاب أمين مجمع البحوث الإسلامية غير مدرك للواقع، وهو من مزالق الاجتهاد الفقهي.
أما تأييد البيان للحرية بضوابطها، فكلام مقبول، لولا ما قاله البيان من أن “استغلال هذا المناخ من الحرية والديمقراطية والثورة إلى إشاعة فوضى على حساب مصر تسىء لسمعتها بالداخل والخارج، فهذا أمر لا يقره شرع ولا قانون ولا عرف من الأعراف الإنسانية“. فوجود سفارة للاحتلال الصهيوني على أرض مصر هو أمر لا يقره الشرع أصلا، كما أن البيان تناسى الأعراف الإنسانية أوقات الثورات.
ثم كان من الواجب الإشارة في البيان إلى الدوافع التي حدت بما حصل من خرق الكيان الصهيوني للمعاهدة، واقتحام المجال الجوي وقتل بعض الجنود المصريين، دون تحرك فاعل من الحكومة، وليت مجمع البحوث الإسلامية كان في بيانه إلى الانتهاك الإسرائيلي للدولة المصرية ، حتى يوازن بين الأمور.
فنحن لسنا مع اقتحام السفارة، لكن لا يمكن التقول على الله بأن اقتحامها حرام شرعا، وأن هذا أمر لا يحبه الله، بل نقول: من الأولى عدم اقتحامها لطبيعة المرحلة والظروف التي تمر بها، وإن كنا نؤمن شرعا بحرمة بقاء سفارة الكيان الصهيوني على أرضنا، وغالب الدول العربية والإسلامية لم ترض – بناء على الرؤية الشرعية – بوجود سفارة على أراضيها باعتبار الكيان الصهيوني دولة غير شرعية، وقد حكى الشيخ القرضاوي معارضة العالم الإسلامي لمعاهدة كامب ديفيد والصلح مع إسرائيل، فقال :” لقد استدل الرئيس المصري الراحل أنور السادات – حين عقد اتفاقه مع إسرائيل بالآية الكريمة (وإن جنحوا للسلم…) فقاطعه العرب جميعا وخونوه، وقالوا: إن اليهود لم يجنحوا للسلم، و أعتقد أن الموقف لم يتغير….” [1] .
والمتتبع لفتاوى وقرارات مجمع البحوث الإسلامية منذ عام 1961 إلى عهد قريب جدا يرى اهتمام المجمع بموقفه الواضح من الكيان الصهيوني ومن وجوب الجهاد ضده، بل كانت قرارات المجمع في مؤتمراته تصدر بالاهتمام بقضية فلسطين وبيان وجوب الجهاد ضد الكيان الصهيوني، وذلك منذ نشأة المجمع حتى عهد الشيخ جاد الحق- رحمه الله.
كما من المعروف تاريخيا أن لجنة الفتوى بالجامع الأزهر أصدرت فتوى شهيرة بحرمة الصلح مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وحرمة التعاون معهم، وأنه لا يجوز لأية دولة مسلمة أن تهادنهم أو تصالحهم؛ لما في ذلك من مظاهرة الكافرين على المؤمنين، وقد صدرت هذه الفتوى عن عدد من كبار علماء الأزهر، وكانت برئاسة الشيخ حسنين محمد مخلوف عضو جماعة كبار العلماء ومفتي الديار المصرية سابقاً وعضوية السادة أصحاب الفضيلة : الشيخ عيسى منون عضو جماعة كبار العلماء وشيخ كلية الشريعة سابقاً (الشافعي المذهب) والشيخ محمود شلتوت عضو جماعة حبار العلماء (الحنفي المذهب) والشيخ محمد الطنيخي عضو جماعة كبار العلماء ومدير الوعظ والإرشاد (المالكي المذهب(والشيخ محمد عبد اللطيف السبكي عضو جماعة كبار العلماء ومدير التفتيش بالأزهر (الحنبلي المذهب) وبحضور الشيخ زكريا البري أمين الفتوى.
ومما جاء فيها:
“وتفيد اللجنة أن الصلح مع إسرائيل _ كما يريده الداعون إليه _ لا يجوز شرعاً، لما له من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه، والاعتراف بأحقية يده على ما اغتصبه، وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه. وقد أجمعت الشرائع السماوية والوضعية على حرمة الغصب ووجوب رد المغصوب إلى أهله، وحثت صاحب الحق على الدفاع والمطالبة بحقه. ففي الحديث الشريف: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد» وفي حديث آخر: «على اليد ما أخذت حتى ترد». فلا يجوز للمسلمين أن يصالحوا هؤلاء اليهود الذين اغتصبوا أرض فلسطين، واعتدوا فيها على أهلها وعلى أموالهم: على أي وجه يمكن اليهود من البقاء كدولة في أرض هذه البلاد الإسلامية المقدسة، بل يجب عليهم أن يتعاونوا جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم لرد هذه البلاد إلى أهلها، وصيانة المسجد الأقصى مهبط الوحي ومصلي الأنبياء الذي بارك الله حوله، وصيانة الآثار والمشاهد الإسلامية، من أيدي هؤلاء الغاصبين، وأن يعينوا المجاهدين بالسلاح وسائر القوى على الجهاد في هذا السبيل، وان يبذلوا فيه كل ما يستطيعون، حتى تطهر البلاد من آثار هؤلاء الطغاة المعتدين، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ). [الأنفال : 60]. ومن قصر في ذلك، أو فرط فيه، أو خذل المسلمين عنه، أو دعا إلى ما من شأنه تفريق الكلمة وتشتيت الشمل والتمكين لدول الاستعمار والصهيونية من تنفيذ خططهم ضد العرب والإسلام وضد هذا القطر العربي الإسلامي، فهو _ في حكم الإسلام _ مفارق جماعة المسلمين، ومقترف لأعظم الآثام” [2]
والخلاصة:
أنه رغم اتفاقي أن محاولة اقتحام السفارة من الأولى تركه، وأن هناك وسائل بديلة كان من الأولى أن يكتفى بها من التظاهر ونحوه دون محاولات اقتحام، ليست لأنها محرمة شرعا كما يزعم بيان مجمع البحوث، محرفا الكلم عن مواضعه، ولكنها خلاف الأولى للملابسات التي ذكرها بيان المجمع.
إننا بحاجة في الاجتهاد الفقهي المعاصر أن نميز بين ما هو شرعي وبين ما هو قانوني، وبين ما يقتضيه الشرع الحنيف، وبين ما توجبه الدولة الحديثة، وأن نمايز بين الأحكام بما أوجبه الله تعالى على العلماء، كما قال تعالى: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) آل عمران: 187، لا أن نغرر الناس باسم الدين، محرمين ما قد يكون واجبا في دين الله تعالى، أو أن ننزل الكلام في غير موضعه، وما زلنا نأمل في أن يخطو الأزهر خطوات نحو الإصلاح، لا أن يحسب نفسه ما زال تحت سطوة نظام الحكم السابق، وأولى هذا الإصلاح هو تجديد الخطاب وظهور استقلاليته، وإن كانت هناك محاولات إصلاحية من شيخ الأزهر، نسأل الله تعالى التوفيق فيها بما فيه الصلاح للأزهر ومصر، وأن يعيد للأزهر ومصر دور الإصلاح والقيادة بما فيه الخير للعالم.
[1] – صحيفة (المسلمون) الصادرة بتاريخ: 31 رجب سنة 1415هـ.
[2] – الفتوى بنصها نشرت بمجلة الأزهر: المجلد السابع والعشرون، سنة 1955، 1956، ص 682 – 686