د. مسعود صبري
مقصود هذا المقال بيان درجة التجديد في مقاصد الشريعة، والوقوف – بلمحة سريعة- حول محطات التجديد، وبيان كيفية تطوير الإفادة من مقاصد الشريعة بشكل أوسع، وانتقال النظر إلى إليها من النظر الفقهي إلى مجال الحياة العامة، وكيف تكون المقاصد مادة عامة للأفراد والمؤسسات، بما يحقق الإفادة منها في الدين والدنيا.
مراحل تطور المقاصد
فقد تطورت مقاصد الشريعة ومر هذا التطور بعدة مراحل:
المرحلة الأولى: اعتبار المقاصد جزءا من علم أصول الفقه، على مدى مراحل الاهتمام بها المتنوعة قلة وكثرة.
المرحلة الثانية: المناداة باعتبار المقاصد علما مستقلا على يد الطاهر ابن عاشور (عالم وفقيه تونسي، 1296 هـ/1879-1393 هـ/1972) وتوسع الاهتمام بها في مجال استقلالها عن علم أصول الفقه.
المرحلة الثالثة: الوصول إلى إنشاء قسم للدراسات العليا خاصا بها في بلاد المغرب العربي، وقيام عشرات الباحثين بالكتابة فيها على مستوى درجتي الماجستير والدكتوراه، وبحوث الترقية، ثم إنشاء مركز خاص للدراسات المقاصدية، وهو مركز دراسات مقاصد الشريعة بلندن (أسسه أحمد زكي يماني وآخرون).
المرحلة الرابعة: انتهى المطاف – في مجال التجديد في مقاصد الشريعة- باعتبارها كلية ورتبة أعلى عن علم أصول الفقه الذي كان المحضن الأول لها من حيث التعريف والتصنيف.
و مراحل التجديد في مقاصد الشريعة السالف ذكرها ليس محل اتفاق بين علماء الشريعة حتى اليوم، فمازال هناك من يرى تبعية مقاصد الشريعة لعلم أصول الفقه، ومن باب أولى ألا تكون رتبة أعلى من أصول الفقه، لكن هذا لا يمنع من الدعوات والرؤى التجديدية التي تتعلق بمقاصد الشريعة.
ورغم تلك الرؤى التجديدية لمقاصد الشريعة فإن مساحة الحديث عن المقاصد لا يتعدى النظر والاستدلال الفقهي اللصيق بمساحة الاجتهاد وفهم علوم الشريعة على نحو أوفق.
المقاصد في حياة الأشخاص
لكننا بحاجة أن نعيد النظر في مجال التجديد الخاص بمقاصد الشريعة، برؤية كلية لا تقف عند حدود التوليد في مجال الفقه والأصول، بل باعتبار مقاصد الشريعة ميزانا للنظر المنهجي فيما يتعلق بدين ودنيا الفرد والجماعة، وعدم حبس المقاصد في مجال التشريع، لنُخرج منها منهجا ينبع عنه استقامة الحياة بكل مجالاتها.
فعلى المستوى الشخصي يحتاج الإنسان الإفادة من المقاصد بما يحقق له التوازن والشمول في حياته، وتقديم الجوهر على المظهر، وإدراك فقه الأولويات في دينه ودنياه، حتى تمثل المقاصد بوصلة التوجيه العقلي والفكري والروحي والتشريعي، فبعد استخراج منهج النظر والاستدلال من المقاصد يمكن تطبيقه بشكل ناجح وناجع في فروع حياته كما يستعمله الفقيه في الاستدلال والنظر في الفروع الفقهية التي تتعلق بالحلال والحرام.
ولعل التدليل للمقاصد في الفقه والأصول كثير مشتهر، لكن التدليل له في حياة الناس أمر جديد من حيث التنظير والتطبيق.
مجالات الإفادة من المقاصد
ولنضرب أمثلة على الإفادة من المقاصد في حياة الإنسان..
في مجال الإنفاق، فيما يتعلق بالأفراد والمؤسسات فإنه يمكن اعتماد رتب المقاصد من الضروريات (هي التي تتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت اختلت الحياة الدنيا وحل العقاب في الآخر) والحاجيات (هي التي يحتاج الناس إليها لرفع الحرج عنهم فقط , بحيث إذا فقدت وقع الناس في الضيق الحرج دون أن تختل الحياة ) والتحسينيات (هي المصالح التي يقصد بها الأخذ بمحاسن العادات ومكارم الأخلاق)، مع الإفادة من دلالات تلك المصطلحات الثلاث دون التقيد بدلالاتها داخل الدرس المقاصدي، فكم من الأموال تهدر على مستوى الأفراد والمؤسسات وهي في رتبة التحسين، في حين يغيب الاهتمام بأهداف وطموحات هي من باب الضرورة أو الحاجة، مما يمثل عائقا كبيرا في حياة الفرد وفي مسيرة المؤسسات الرسمية والشعبية، وتتعطل خطط الإنتاج الطموحة لغياب فكر المقاصد فيها.
والعمل بمنظومة رتب المقاصد سيوفر للفرد والمؤسسات أموالا طائلة، وسيرشد الإنفاق بشكل كبير مما يمكن به الانتفاع بالموفور المالي في مجالات أكثر أهمية.
فإذا كان لدى الفرد مثلا تفكير في رحلة ترفيهية خارج البلاد، ودورة تدريبية تخص تنمية مهاراته المهنية، وليس معه مال إلا لإحداهما، فإنه بناء على منهج المقاصد يقدم الدورة التدريبية على الرحلة، وتؤجل الرحلة لحين توفير السيولة لها إن كانت مهمة، أو إلغاؤها والبحث عن بدائل أوفر وأسهل لتحقق مقاصد الرحلة الترفيهية.
وإذا كان للفرد أهداف مالية ويلح عليه شراء بيت أو شقة، كما أنه بحاجة إلى شراء سيارة ، وهو يسكن بالإيجار، فإنه يقدم شراء السكن على شراء السيارة، لأنه يمكن أن يتحمل التنقل بوسائل المواصلات، ويقدم شراء السكن ليوقف نزيف ثمن الإيجار، وينتقل إلى التمليك، وما يملكه يكون له رصيدا ماليا قد يستفيد به فيما بعد.
هذا بخلاف من يريد بعض المشاريع ، ويحتاج إلى سيولة، ويفكر في شراء سكن أو يكوّن به مشروعا استثماريا، فإنه يقدم المشروع على السكن ويستعيض عن شراء السكن بسكنى بالإيجار.
وإذا كان عند الإنسان أكثر من أمر يريد فعله ولا وقت كافيا إلا لأحدهما، كأن يكون يريد القيام بالكشف الطبي أو المشاركة في ندوة علمية، فإنه يقدم الكشف الطبي؛ لأن الحفاظ على النفس مقدم على الحفاظ على رتبة التحسين في الحفاظ على العقل.
وإن جملة من مقاصد الشريعة لكفيلة بتنظيم الحياة سياسيا واقتصاديا وفكريا واجتماعيا، فرتب المقاصد من الضروري والحاجي والتحسيني، والموازنة بين المصالح والمفاسد، وترتيب فقه الأولويات (وهو العلم بالأحكام الشرعية التي لها الحق في التقدم على غيرها بناء على العلم بمراتبها، وبحسب الواقع الذي يتطلبها)، والتنبه إلى مقصود الأعمال ليعطي للأفراد والمؤسسات خطة تشغيلية يساعدها في تنظيم الإجراءات التي تسهم في البناء الإيجابي بما يدفع للعيش في حياة كريمة وتحقيق أمنيات وغايات في وقت يغلب عليه الترشيد لتحقيق ما نصبو إليه.