فقهيةقضايا معاصرة

التنازل عن الجنسية حفاظا على الحياة

د. مسعود صبري

أثار بعض الإعلاميين في أكثر من قضية أفرج فيها عن بعض المعتقلين السياسيين في مصر مقابل التنازل عن الجنسية أن مثل هذا العمل من التنازل عن الجنسية خيانة للوطن، علما أن لديهم جنسية أخرى، وأنه قد تم اعتقال بعضهم مدة طويلة جدا، ساءت مع الاعتقال حالتهم الصحية وأشرفت على الهلاك، فهل يعد التنازل عن الجنسية البلد التي نشأ الإنسان فيها خيانة لهذا الوطن؟

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الله تعالى خلق بني آدم جميعا وأسكنهم الأرض لهم دون غيرهم، فليس يستولي أحد من غير بني آدم عليها، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30]، ومعنى الخلافة هنا أي يخلف بعضهم بعضا في سكناها وميراثها. فللمسلم أن يعيش في أي جزء من الكرة الأرضية مادام آمنا على دينه وحياته، مطمئنا فيها على أهله ومستقبله.

ولاشك أن ارتباط الإنسان بوطنه الذي ولد فيه، أو تنتمي أصوله إليه هو ارتباط فطري، ليس بحاجة إلى بيان مكانة الوطن في قلوب أهله، فلم تكثر الشريعة في نصوص انتماء الإنسان لوطنه؛ لأن هذا من الفطرة، وما قامت به الفطرة؛ قلت فيه نصوص الشريعة.
لكن الارتباط بمكان بعينه، مع أناس بذواتهم ليس مطلوبا شرعيا، خاصة إن بدا للإنسان أن العيش في هذا البلد لا يحقق مصالحه، بل يصيبه بالضرر.

وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة موطنه الأصيل إلى المدينة المنورة ولم يعد إلى مكة مرة أخرى، وهاجر معه أصحابه الكرام تاركين دورهم وأموالهم وتجارتهم وكل شيء؛ تقديما للدين على الوطن الذي خان الأمانة ولم يف بواجباته تجاه أفراده، ولم يتهم أحد من الكافرين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تنازل عن جنسيته المكية، وأنه تحول من محمد المكي إلى محمد المدني، ولم يروا ذلك مسبة، وإلا عايروه بها، لكنهم لم يفعلوا رغم حرصهم على أن يتهموه بكل ما تكون به المسبة والإنقاص.

ثم إن الخيانة المحرمة لابد فيها من نصوص شرعية توجب ترك الإنسان لفعل ظهر من الشريعة حرمته، وليس من نصوص الكتاب والسنة ما يدل على أن ترك إنسان العيش في أرض والانتقال إلى أرض هو من الخيانة أو من المحرمات الشرعية، بناء على القواعد الفقهية المقررة من أصل:” الاستصحاب”، و ” أن الأصل بقاء ما كان على ما كان”، و” الأصل في المنافع الحل، وفي المضار الحرمة”، و” أن الأصل في الأشياء الإباحة”، وغيرها من قواعد الفقه المتعلقة بهذا الشأن.

فالأصل أنه يجوز الإنسان أن ينتقل من مكان لآخر ولو بلا داع، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100]، وقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]
وقد يستحب الانتقال والهجرة من موطن إلى آخر لمقصود محمود شرعي، كأن يهاجر الإنسان للتعليم، فيبقى في البلد الذي تعلم فيه ولا يعود إلى وطنه، أو أن يهاجر لطلب الرزق الحلال، أو غيرها من المقاصد البشرية المحمودة، فتحسين معيشة الإنسان، وطلبه لمحامد الأفعال مما حث الشارع على فعله، وأثاب عليه. وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]، وقوله جلا في علاه: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]

وكم من فقيه وعالم في الأمة قد ترك موطنه الأصلي حتى نسي أنه منسوب إليه، وانتقل إلى موطن آخر نسب إليه، ولو عد العلماء الذين هاجروا مثلا من مواطنهم المختلفة واستقروا بمصر زمن أن كانت حاضنة الإسلام والعلم لصعب حصرهم، وكذلك الحال ممن هاجروا من بلادهم إلى بلاد الحرمين وإلى العراق حاضنة الإسلام في الخلافة العباسية وغيرها.
وقد يجب على المسلم أن يهاجر من موطنه إلى موطن آخر، إن خاف على دينه أو نفسه؛ لأنه مأمور بحفظ دينه، كما أنه مأمور بحفظ نفسه.
ودليل ذلك من الكتاب ما يلي:
قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 – 99].
وقد ثبتت الهجرة لبعض أنبياء الله تعالى فرارا بدينهم وحياتهم، فقد هاجر إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (العنكبوت:26) . جاء في تفسير الطبري (20/ 26) يقول: وقال إبراهيم: إني مهاجر دار قومي إلى ربي إلى الشام.
وقال الله عن إبراهيم – أيضا- {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [سورة الصافات: 99] .

كما هاجر موسى عليه السلام من مصر إلى مدين ومكث بها عشر سنوات، ثم عاد إلى مصر نبيا، ثم هاجر منها مرة أخرى إلى فلسطين، وكانت المرة الأولى حفاظا على نفسه من بطش فرعون به، كما قال تعالى: {وجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20] ، وقال سبحانه: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [سورة القصص: 21] ، فجعل من مقاصد الهجرة النجاة من الظالمين.
والثانية حفاظا على الدين والنفس ومعه قومه، كما سبحانه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف: 138]، وغيرها من الآيات التي تتعلق بهجرة موسى – عليه السلام- وبني إسرائيل من مصر.
وقد وعد الله تعالى من هاجر بدينه بحسن المعيشة في الدنيا، والمثوبة في الآخرة، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ . الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [سورة النحل: 41-42] .
ومن الأدلة من السنة:
ما ورد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا ظهرت المعاصي في أرض فلم تطق أن تغيرها فتحول عنها إلى غيرها فاعبد بها ربك)
وفي سنن أبي داود (2479)، وأحمد 4/ 99، والدارمي 2/ 239، والنسائي في ” الكبرى ” كما في ” التحفة ” 8/ 454 عن أبي هند البجلي، عن معاوية، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ” لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها “. 

ومن أقوال أهل العلم:
جاء في الفقه الأبسط (ص: 133): قال أبو حنيفة: حدثني بعض أهل العلم عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تحول من أرض يخاف الفتنة فيها إلى أرض لا يخافها فيها كتب الله له اجر سبعين صديقا.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (18/284): أحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلماً، وتارة كافراً، وتارة مؤمناً، وتارة منافقاً، وتارة براً تقياً، وتارة فاجراً شقياً. وهكذا المساكن بحسب سكانها فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة.
فكل وسيلة تؤدي إلى حفظ دين المرء، وحفظ نفسه تكون واجبة، وقد قال العلماء في قواعدهم: ” للوسائل حكم المقاصد”.
ثم إن الله تعالى لن يحاسب الناس يوم القيامة حسب جنسياتهم، بل لن يحاسبهم عن التنازل عن جنسية وطن يقتل أبناءه، ويحارب دينه.
على أن من استطاع أن يبقى في وطنه من باب الإصلاح كان واجبا، لأن هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصوصه من الكتاب والسنة كثيرة. وأحوال الناس في الوطن الواحد مختلفة، فيأخذ كل واحد حكمه حسب حالته.

والخلاصة:
أنه إن تعين التنازل عن الجنسية للحفاظ على الدين أو النفس؛ كان التنازل واجبا، والإصرار على الجنسية مع ضياع الدين والنفس حرام شرعا.

والله أعلم.

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى