فقهيةقضايا معاصرة

فقه شهر المحرم: صيام 14 ساعة يكفر ذنوب 8640 ساعة

د. مسعود صبري

شهر المحرم هو الشهر الأول من العام الهجري، ويمثل مع رجب وذي القعدة وذي الحجة الأشهر الحرم، التي ذكرها الله تعالى في كتابه بقوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:36).

وقد جاء ذكر الأشهر الحرم في القرآن مجملة، كعادة القرآن في الإجمال، ثم فصلها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية، كعادة السنة في تفصيل ما أجمله القرآن، ففي الحديث المتفق عليه، عن أبي بكرة –  رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم –  خطب في حجته، فقال: “ألا إن الزمان قد استدار كهيئته، يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر بين جمادى وشعبان”.

  • فضل شهر الله المحرم:

فضل الله تعالى بعض الشهور على بعض، فجعل شهر رمضان هو خير الشهور على الإطلاق، لما كان فيه من بدء نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتداء نزول القرآن، كما قال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [البقرة: 185].

ثم يليه في التفضيل شهر المحرم فهو أفضل الشهور عامة بعد رمضان، وهو أفضل الأشهر الحرم على ما قاله عدد من علماء السلف، فقد أخرج النسائي في سننه من حديث أبي ذر – رضي الله عنه- قال: ” سألت النبي – صلى الله عليه وسلم-: أي الليل خير وأي الأشهر أفضل؟ فقال: “خير الليل جوفه، وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم”.

ومما يدل على أفضليته أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله سبحانه، فسماه شهر الله المحرم، ولا يضيف الله إليه شيئا إلا لعلو مكانته ورفعته عنده.

فشهر المحرم هو أفضل في التطوع بعد رمضان، الذي هو شهر الفريضة، فقد روى مسلم عن أبي هريرة –  رضي الله عنه-   قال: قال رسول الله –  صلى الله عليه وسلم-  : ” أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل” .

  • أيام الله في شهر المحرم

لقد حفل شهر المحرم من أيام الله تعالى ما فيه عبرة وعظة لأولى الألباب، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] من ذلك:

نجاة موسى عليه السلام:

من أفضلية شهر المحرم وقوع بعد الأحداث التاريخية لأنبياء الله تعالى، وهي من أيام الله تعالى، التي فيها ذكرى.

ومن الأحداث التي وقعت في شهر المحرم نجاة موسى عليه السلام من فرعون وقومه، حين أتبع فرعون بجنوده موسى ومن معه فأنجاه الله ، كما قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 63 – 66].

ولقد حفظ بنو إسرائيل لهذا الشهر بركته، فمازالوا يصومون يوم عاشوراء من شهر المحرم منذ أيام موسى – عليه السلام- إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء النبي – عليه الصلاة والسلام-  المدينة وجدهم يصومون هذا اليوم لنجاة موسى عليه السلام فيه، فصامه وأمر أصحابه أن يصوموه.

 فعن  ابن عباس – رضي الله عنهما-  أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-  قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : “ما هذا اليوم الذي تصومونه؟” فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، و أغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله –  صلى الله عليه وسلم-  : “فنحن أحق وأولى بموسى منكم” فصامه رسول الله –  صلى الله عليه وسلم-   وأمر بصيامه”.

نجاة نوح والمؤمنين:

وفي هذا الشهر كانت نجاة نوح – عليه السلام- بعدما كذبه قومه، وأمره الله تعالى بصنع السفينة، فكان في هذا الشهر استواء سفينة نوح – عليه السلام- على جبل الجودي كما ذكر القرآن ذلك، فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ . وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ . وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 40 – 44]، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن استواء سفينة نوح على جبل الجودي كان في شهر المحرم، ففي رواية لأحمد عن أبي هريرة أنه قال: “وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا”.

وأحداث هذا الشهر تذكر المؤمنين – عبر العصور والدهور- بمعية الله تعالى للمؤمنين، وبنصره لهم على أعدائهم، وإن كانوا قلة ضعفاء، فإنه بإيمانهم بالله تعالى؛ يتنزل النصر عليهم، حتى لو بدا أنهم مستضعفون، فإن هذا الاستضعاف لا يستمر، بل يكون وفق سنن الله تعالى في كونه يبقى مدة ثم يزول.

وهذا ما خاطب به الله تعالى صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الأنفال: 26].

وحين يقرأ المؤمنون تلك الآيات، ويتذكرون تلك الأحداث تتنزل السكينة على قلوبهم، فيثقون بموعود الله تعالى، ويستنشقون رياح  النصر من هواء اليقين بالله، الذي لا يخلف الله وعده.

  • صيام عاشوراء:

ومن مزايا شهر المحرم أن فيه يوم عاشوراء، وهو يوم مبارك، كان نبي الله موسى – عليه السلام- يصومه، وكان أهل الكتاب يصومونه، كما كان أهل الجاهلية يصومونه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومونه، فصامه، وقال: نحن أحق بموسى منهم.

وورد في صحيح مسلم عن فضل صيامه،  عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي –  صلى الله عليه وسلم-   عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ” إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله”.

  • صيام تاسوعاء:

ويستحب – كذلك – صيام اليوم التاسع من شهر المحرم لما ورد في الحديث الصحيح ” أنه صلى الله عليه وسلم صام عاشوراء ، فقيل له : إن اليهود والنصارى تعظمه ، فقال : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع ” .

وإذا كان صيام شهر رمضان وست بعده من شوال كصيام الدهر، فإن صيام يوم عاشوراء يكفر ذنوب السنة الماضية، وهو بلا شك ثواب عظيم يُطمع كل ذي عقل أن يصوم سويعات قلائل في مقابل تكفير ثمانية آلاف وستمائة وأربعين ساعة..

  • حكمة صيام تاسوعاء:

ذكر العلماء عدة أوجه في الحكمة من صيام يوم تاسوعاء:

الأول : مخالفة اليهود:

ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد لأمته أن تتميز عن اليهود، وهو مقصد شرعي كما قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وكانوا يصومون عاشوراء، فسن صيام تاسوعاء مخالفة لهم، فقد أخرج الإمام أحمد بسنده إلى ابن عباس قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم ” صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا اليهود ، وصوموا قبله يوما وبعده يوما “.

الثاني : أن يوصل يوم عاشوراء بصوم، فلا يفرد به.

الثالث : الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ووقوع غلط ، فيكون التاسع في العدد هو العاشر في نفس الأمر .

  • مراتب صيام عاشوراء:

لصيام يوم عاشوراء مراتب، فمن أتى وجهًا منها فقد صح صومه، ولكن تختلف مراتب صيامه، فبعضها أولى من بعض.

وهذه المراتب هي:

أولاً: صيام تاسوعاء وعاشوراء معا:

 وهذا أفضل المراتب، لما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر” .
ثانياً: صيام يوم عاشوراء مع اليوم الحادي عشر

ودليله ما أخرجه أحمد عن ابن عباس  رضي الله عنهما، أن النبي –  صلى الله عليه وسلم-   قال: ” خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده”.
ثالثاً: صيام اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر:

ومن قال بهذا الرأي استند لحديث ابن عباس مرفوعاً ” صوموا يوماً قبله ويوماً بعده”
رابعا: إفراد عاشوراء بالصيام :

 وذلك لحديث مسلم في صحيحه عن أبي قتادة ” أن النبي –  صلى الله عليه وسلم-  قال في صيام يوم عاشوراء: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله.

إن التدبر في التاريخ من خلال الأيام والشهور لهو من التدبر في سنن الله تعالى في كونه، والأمر بالسير بحثا عن المعرفة للتدبر وأخذ العظة، ومعرفة ما للشهر والأيام من أحكام فقهية، ليجمع المسلم بذلك بين فقه الأحكام من ناحية، والفقه الحضاري للأمة، وذلك لأهمية ارتباط المسلم بتاريخ أمته، وتاريخ الإنسانية باعتبار أن أصل الأديان واحد، وأن البشر كلهم آدم، فيتحقق بذلك الوحدة الإنسانية، باعتبار القاسم المشترك بين الناس جميعا، مع الحفاظ على خصوصية كل أمة من الأمم.

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى