يلاحظ اختلاف الفقهاء في المفطرات، سواء المفطرات القديمة، أو حتى المفطرات الحديثة، كالحقن، والمناظير، والقطرات وسحب الدم وغسيل الكلى وغيرها.
ولمعرفة أسباب الاختلاف يجب الوقوف على الأصول والقواعد التي يتجهها الفقهاء لمعرفة ذلك الاختلاف.
والإمساك عن المفطرات هو الركن الثاني من أركان الصيام بعد النية، والمفطرات نوعان:
- النوع الأول: منطوق به
يعني نطقت النصوص بأنها مفطرة، وهو قسمان:
القسم الأول: منطوق به متفق عليه:
وهو ثلاثة
- أكل الطعام في نهار رمضان.
- الشرب في نهار رمضان.
ودليلهما قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وأما السنة، فقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم، أطيب عند الله من ريح المسك؛ يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» .
- الجماع في نهار رمضان. ودليله حديث الأعرابي.
القسم الثاني: منطوق به مختلف فيه:
وهو ما وردت فيه آثار، لكن الفقهاء لم يتفقوا على حكمه هل هو مفسد للصيام أم لا.
وهو مسألتان: الحجامة والقيء.
أما القيء فإن كان عمدا، فمفطر، وإن غلبه القيء، فلا يفطر، لأن الأول بالاختيار، والثاني بغير اختيار.
وكذلك سبب اختلافهم: ما يتوهم من التعارض بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة، واختلافهم أيضا في تصحيحها.
وأما الحجامة فمختلف فيها اختلاف كبير، ومرده تعارض النصوص فيها، ومذاهب الفقهاء في الترجيح بينها. وهذا هو سبب الاختلاف.
النوع الثاني: المسكوت عنه:
والمقصود بالمسكوت عنه بالمعنى الفقهي وليس بالمعنى الأصولي، لأن المسكوت عنه بالمعنى الأصولي ما أسماه بعض الفقهاء والأصوليين (السكوت التشريعي)، وهو أحد مقاصد الشريعة، وهو بمعنى سكوت الشارع في وقت قد يحتاج فيه إلى البيان، فيسكت، فيعلم أن هذا السكوت هو مقصود الشارع، كالأذان في العيدين، فرغم أن غالب الصلوات يسبقها أذان، لكن في صلاة العيدين لم يشرع الأذان، فعلم أن السكوت هو المقصود، وهذا ما أسميه بالسكوت الأصولي.
أما السكوت الفقهي، فهو في الحقيقة ليس سكوتا، وإنما يقصد به ما لم يتناوله النص، وأنه محل الاجتهاد بين الفقهاء.
أنواع المسكوت عنه:
وهذا المسكوت عنه فقها في المفطرات ثلاثة أنواع:
الأول: ما يرد الجوف مما ليس بمغذ.
الثاني: ما يرد الجوف من غير منفذ الطعام والشراب مثل الحقنة.
الثالث: ما يرد باطن سائر الأعضاء ولا يرد الجوف مثل أن يرد الدماغ ولا يرد المعدة.
سبب الخلاف:
وسبب اختلافهم في هذه هو: قياس المغذي على غير المغذي،
وذلك أن نظر الفقهاء إلى الصيام مختلف، فهم ينقسمون فيه إلى فريقين:
الفريق الأول: أن الصيام عبادة معقولة المعنى:
وهؤلاء فرقوا بين المغذي وغير المغذي، فما كان مغذيا أو في معناه؛ فهو مفسد للصيام، وما كان غير مغذ، فليس بمفطر ولا مفسد للصيام.
الفريق الثاني: الصيام عبادة غير معقولة المعنى، فيقصد منه مطلق الإمساك: وهؤلاء لم يفرقوا بين المغذي وغير المغذي، فكل ما وصل عن طريق الحلق إلى الجوف، فهو مفسد للصيام، وإن لم يكن مغذيا.
وعلى هذا، فأصول الاختلاف راجعة إلى أقسام:
الأول: اعتبار كل ما يصل إلى الجوف، فهو مفطر، سواء أكان مغذيا أو غير مغذ.
الثاني: اعتبار ما هو مغذ مطلقا سواء عن طريق الجوف أو غيره.
الثالث: اعتبار ما هو مغذ عن طريق الجوف فقط هو المفطر.
الرابع: ما يصل إلى الجوف من غير الطريق المعتاد.
وهناك خامس، وهو إفضاء الشهوة قياسا على الجماع، كالاستمناء.
وعلى هذه الأصول يفهم اختلاف الفقهاء فيما يفطر أو لا يفطر.
والتطبيقات على ذلك بما يلي:
القياس على الجماع من جهة إفضاء الشهوة:
اختلفوا في بعض المسائل، منها: الإفطار بالقبلة:
فقد اختلف الفقهاء فيها على أربعة آراء:
الأول: أنها جائزة. لما روي من حديث عائشة وأم سلمة: «أن النبي – عليه الصلاة والسلام – كان يقبل وهو صائم»
الثاني: أنها مكروهة على الإطلاق، لأنها قد تؤدي إلى وقاع الرجل زوجته.
الثالث: أنها مكروهة للشاب دون الشيخ، لأن الداعي للوقاع عند الشاب أقوى من الشيخ.
الرابع: أنها تفطر. واحتجوا لذلك بما روي عن ميمونة بنت سعد قالت: «سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن القبلة للصائم فقال: ” أفطرا جميعا» . خرج هذا الأثر الطحاوي ولكن ضعفه.
كل ما يدخل الجوف:
وانتصر الإمام ابن قدامة لرأي من قال إن كل ما يدخل الجوف يفطر سواء أكان مغذيا، أو غير مغذ. فقال المغني (3/ 121):
أنه يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه، أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه، ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته، إذا وصل باختياره، وكان مما يمكن التحرز منه، سواء وصل من الفم على العادة، أو غير العادة كالوجور واللدود، أو من الأنف كالسعوط، أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ، أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة، أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه، أو من دواء المأمومة إلى دماغه، فهذا كله يفطره؛ لأنه واصل إلى جوفه باختياره، فأشبه الأكل، وكذلك لو جرح نفسه، أو جرحه غيره باختياره، فوصل إلى جوفه، سواء استقر في جوفه، أو عاد فخرج منه، وبهذا كله قال الشافعي. وقال مالك: لا يفطر بالسعوط، إلا أن ينزل إلى حلقه، ولا يفطر إذا داوى المأمومة والجائفة.
واختلف عنه في الحقنة، واحتج له بأنه لم يصل إلى الحلق منه شيء، أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا الجوف. ولنا أنه واصل إلى جوف الصائم باختياره، فيفطره، كالواصل إلى الحلق، والدماغ جوف، والواصل إليه يغذيه، فيفطره، كجوف البدن.ا.هـ
ما ليس بمغذ ليس مفطرا:
مثل مذهب الأحناف أن وضع الكحل وإن وصل إلى الحلق لا يفطر، لأن العين ليست منفذا، فلم يفطر بالداخل منها، كما لو دهن رأسه، في حين خالفه بعض المذاهب كالحنابلة لأنه وصل إلى الحلق.
ومن ذلك ابتلاغ النخامة فهي محل خلاف بين الفقهاء.
ومثل اختلافهم في العلك القوي الذي كلما مضغه صلب وقوي، فهذا يكره مضغه ولا يحرم. وممن كرهه الشعبي، والنخعي ومحمد بن علي وقتادة، والشافعي، وأصحاب الرأي؛ وذلك لأنه يحلب الفم، ويجمع الريق، ويورث العطش. ورخصت عائشة في مضغه. وبه قال عطاء؛ لأنه لا يصل إلى الجوف، فهو كالحصاة يضعها في فيه، ومتى مضغه ولم يجد طعمه في حلقه، لم يفطر. وإن وجد طعمه في حلقه، لم يفطر. وإن وجد طعمه في حلقه ففيه وجهان؛ أحدهما، يفطره، كالكحل إذا وجد طعمه في حلقه. (المغني لابن قدامة (3/ 125)
الاختلاف في المفطرات الحديثة:
ومن الأمثلة التي اختلف الفقهاء المعاصرون فيها بناء على أسباب الاختلاف، هل كل ما يصل إلى الجوف مفطر؟ أم لابد أن يكون مغذيا؟ أم لابد من اشتمال الشرطين.
من ذلك بخاخ الربو وبخاخ الأنف وقطرة العين، فمن رأى أن كل ما يصل إلى الجوف يفطر، جعلها من مفسدات الصيام، ومن رأى أنها ليس في معنى الطعام والشراب لم ير أنها مفسدة للصيام.
ومن ذلك الحقن، فمن نظر إلى معنى الطعام والشراب فرق بين الحقن التي تؤخذ في الجلد والعضل، فهي ليست مغذية ولا تفسد، وأما التي تعطى في الوريد فهي مغذية تفطر، ومن رأى أن كل ما يصل إلى الجوف ولو من غير الطريق المعتاد الذي هو الحلق يفطر جعلها مفطرة.
وعليه يفهم كثير من الاختلاف بين الفقهاء المعاصرين فيما يفطر وما لا يفطر، اعتمادا على أصول الاختلاف في قضايا الصيام.