فقهيةقضايا معاصرة

التورق: إشكالية الحكم والأخلاق

شاعت في الآونة الأخيرة طريقة بين الناس يتحايلون فيها على القرض من البنوك، بما يعرف بالتورق، ومقصود التورق هو الحصول على مبلغ من المال من البنك، تحايلا على الربا، وغالب التورق يستعمل في زيادة الناشط التجاري للإنسان، أو قد يستعمل في شراء بعض الحاجات كبيت أو أرض أو نحو ذلك، وسهل إقبال الناس عليه اعتباره معاملة مباحة وخدمة مصرفية تقدمها المصارف الإسلامية، بديلا عن التمويل المصرفي في المصارف الربوية التجارية، وقد يكون من حق الناس الإقبال على تلك المعاملة باعتبارها بديلا عن الربا أو التمويل المصرفي، لكن تبقى الأمانة العلمية على عاتق الفقهاء المتخصصين في المصارف الإسلامية، وهيئات الفتوى بالمؤسسات المالية أن يتصوروا المسألة كما هي وكما تجرى في البنوك الإسلامية، والحق أن بيان طبيعة هذه المعاملة وحكمها لا يتعلق كونها تخرج من بنك إسلامي أو بنك تجاري، وإنما يجب الحكم على المعاملة كما هي في تصورها الحقيقي، دون انخداع بأن تلبس زي الشريعة أو تتسمى باسمه، أو تنسب إليه، فمعرفة طبيعة المعاملة وحده هو الذي يساعد الفقيه المجتهد على حكمها وليس مجرد خروجها من المصارف الإسلامية يجعلها حلالا أو يجعلها حراما، إذ التحليل والتحريم هو حق لله تعالى، بمعنى أن المجتهد يبحث عن حكم الله تعالى، ويخرج للناس ما يغلب على ظنه أنه حكم الله، فيكون حكمه هو حكم الله الذي جاء عن طريق الاجتهاد.

  • تعريف التورق:

يناقش الفقهاء التورق في (بيع العينة)، ولكن فقهاء الحنابلة نصوا على (التورق بلفظه في كتبهم) ، قال أبو الحسن المرداوي من فقهاء الحنابلة:  ” لو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين فلا بأس نص عليه وهو المذهب وعليه الأصحاب وهي مسألة التورق”  الإنصاف – (4 / 243).

  • صور التورق:

وهذه المعاملة لها أكثر من صورة:

الصورة الأولى:

 أن يشتري الشخص سلعة بالتقسيط ، ثم يبيعها نقدا  لغير البائع  بأقل من الثمن الذي اشتراه به ؛ ليحصل بذلك على النقد. وهذه محل خلاف بين الفقهاء.

الصورة الثانية:

أن يذهب (العميل) إلى البنك، ويحدد المبلغ الذي يطلبه، فيكتب له البنك عقدا على أنه اشترى سلعة معينة (كالحديد مثلا)، فيشتريها من البنك بالتقسيط، ثم يبيعها البنك – حسبما يقال – إلى جهة أخرى، ويعطي العميل المبلغ المطلوب، وكأن (العميل) هو الذي باعها، وإنما يكون البيع على الورق فحسب.

وهناك فوارق بين الصورتين:

فالتورق في الصورة الأولى: فيه بيع حقيقي، وسلعة بيعت، وتسلمها صاحبها، واشتراها بيعا بالتقسيط، ثم باعها واستفاد بثمنها نفدا.

أما الثانية: فليست هناك سلعة حقيقية – في الغالب-، والعميل لا يتسلم البضاعة، ولا يبيعها، وإنما يوقع على بعض الأوراق لتأخذ شكل بيع التورق الجائز، ولكنها تخالف حقيقته، وبالتالي لا ينطبق عليها حكم التورق كما ذكره الفقهاء، ولو كانت في بنوك إسلامية.

أما الصورة الأولى فقد أجازها جمهور الفقهاء القدامى والمعاصرين، وممن أجازها من المعاصرين اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بالمملكة العربية السعودية،  فقد جاء في فتاوى اللجنة:” وأما مسألة التورق فمحل خلاف، والصحيح جوازها”. وهو اختيار الشيخ ابن باز – رحمه الله.. جاء في مجموع فتاويه:” “وأما مسألة التورق فليست من الربا ، والصحيح حلها، لعموم الأدلة ، ولما فيها من التفريج والتيسير وقضاء الحاجة الحاضرة، أما من باعها على من اشراها منه ، فهذا لا يجوز بل هو من أعمال الربا، وتسمى مسألة العينة ، وهي محرمة لأنها تحايل على الربا”.”مجموع فتاوى ابن باز” (19ج/245)، وممن قال بالجواز أيضا: مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة التي بدأت يوم السبت 11 رجب 1419هـ.

وقال بعض الفقهاء المعاصرين: إن التورق جائز بشروط، ومنهم الشيخ ابن العثيمين – رحمه الله-، والشيخ محمد صالح المنجد.

ومن الفقهاء من رأى حرمة هذه الصورة التي ذهب الجمهور إلى جوازها، وهو اختيار الإمامين: ابن تيمية وابن القيم، ورواية عن الإمام أحمد – رحمهما الله.

واستدل جمهور الفقهاء القدامى والمعاصرين لجواز التورق بعدد من الأدلة، منها أن التورق بيع، فيدخل في عموم جواز البيع في قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة : 275]، كما أنه لم يظهر فيه قصد الربا، ولا يكيف على أنه صورة من صوره.  ولقوله صلى الله عليه وسلم – لعامله على خيبر : “بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا “. الموسوعة بتصرف: 14/148.

كما اشترط من أجاز التورق – كما جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي:” بأن لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول لا مباشرة ولا بالوساطة فإن فعل فقد وقعا في بيع العينة المحرم شرعاً لاشتماله على حيلة الربا فصار عقداً محرماً”.

واستدل من قال بالتحريم أن مقصود (التورق) ليس البيع، وإنما هو الحصول على النقد بنقد مثله، ودخلت السلعة محللا بينهما، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخرجه الشيخان من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه:” إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”.

واستند من أجازها بشروط إلى كونها بيعا، ولحاجة الناس إلى تلك المعاملة، ولقلة المقرضين في عصرنا،  لكنهم وضعوا شروطا، أهمها: أن يكون من قام بالتورق بحاجة حقيقية على المال، ولا تكون هناك وسيلة أخرى مباحة غير التورق، وأن تكون على صورة بيع لا صورة ربا، وألا يبيعها المستدين إلا بعد قبضها؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

  أما الصورة الثانية، والتي يبيع البنك للعميل السلعة على الورق، وربما وكله العميل ليبيع له السلعة، فهذه حرام شرعا، وهو ما يعرف بـ( التورق المصرفي)، لأنها أقرب إلى بيع العينة المنهي عنه شرعا. وقد أفتى بحرمته العلامة الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور صديق الضرير، والدكتور حسين حامد حسان، ، والدكتور مختار السلامي وغيرهم، كما أفتى بذلك المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة ، في المدة من 19-23 / 10 / 1424 هـ الذي يوافقه 13-17 / 12 / 2003 م ، وجاء في قراره:” قيام المصرف بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة (ليست من الذهب أو الفضة) من أسواق السلع العالمية أو غيرها ، على المستورق بثمن آجل ، على أن يلتزم المصرف – إما بشرط في العقد أو بحكم العرف والعادة – بأن ينوب عنه في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر ، وتسليم ثمنها للمستورق.
وبعد النظر والدراسة، قرر مجلس المجمع ما يلي:

أولاً: عدم جواز التورق الذي سبق توصيفه في التمهيد للأمور الآتية:
1) أن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشترطها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعاً، سواء أكان الالتزام مشروطاً صراحة أم بحكم العرف والعادة المتبعة .
2) أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة.
3) أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة لما سمي بالمستورق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه والتي هي صورية في معظم أحوالها، هدف البنك من إجرائها أن تعود عليه بزيادة على ما قدم من تمويل.. وهذه المعاملة غير التورق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، وقد سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملات حقيقية وشروط محددة بينها قراره.. وذلك لما بينهما من فروق عديدة فصلت القول فيها البحوث المقدمة..
فالتورق الحقيقي يقوم على شراء حقيقي لسلعة بثمن آجل تدخل في ملك المشتري ويقبضها قبضاً حقيقياً وتقع في ضمانه ، ثم يقوم ببيعها هو بثمن حال لحاجته إليه، قد يتمكن من الحصول عليه وقد لا يتمكن، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تبرير الحصول على زيادة لما قدم من تمويل لهذا الشخص بمعاملات صورية في معظم أحوالها، وهذا لا يتوافر في المعاملة المبينة التي تجريها بعض المصارف.

ثانياً: يوصي مجلس المجمع جميع المصارف بتجنب المعاملات المحرمة، امتثالاً لأمر الله تعالى .ا.هـ

والخلاصة أن التورق الذي يشتري به الرجل سلعة بالتقسيط، ثم يبيعها لغير البائع بثمن نقد جائز شرعا على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وبالشروط التي بينت، أما ما تجريه بعض المصارف الإسلامية مما يعرف بـ( التورق المصرفي) وقيامها ببيع السلعة فهو حرام شرعا، وليس لأحد عذر في أن يلجأ إلى تلك البنوك، ولو تسمت باسم الإسلام.

 

  • الجانب الأخلاقي للتورق:

إن كان الفقهاء القدامى والمعاصرون قد أبانوا عن الحكم الشرعي للتورق يبقى الجانب الأخلاقي ذا أهمية في النظر إلى الموضوع، خاصة أنه يتعلق بأحد مقاصد الشريعة وهو (حفظ المال)، وهنا تأتي الكليات الكبرى للشريعة لتكون حافظة لأخلاق التعامل المالي للمسلم، وهو اعتبار الضرورة، أو الحاجة، أو التحسين، بمعنى حين يتعامل الناس مع التورق المعمول به في المصارف الإسلامية وما قد يكتنفه من الشبه، هل الدافع للتعامل هو الضرورة التي قد تباح معها ما قد يكون حراما فضلا عن شبهة، دائرا بين الحل والحرمة، وقد يتساوى الأمر مع الحاجة، لكنه بالطبع قد يختلف عن الأمور التحسينية التي ليست بضرورة ولا حاجة.

ثم يأتي الإطار الأخلاقي أيضا منتظما بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم:” فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه“، فالمسلم ليس مطالبا بأن يقتحم كل ميدان، أو أن يتعامل بكل معاملة، حتى لو اجتهد بعض الفقهاء المعاصرين وقالوا بحلها، لكن يبقى الأمر في تعامل المسلم مع ربه سبحانه وتعالى، وأن يحافظ على دينه، ولو وجد فتاوى من هنا وهناك تبيح له ما يطمح إليه نفسه، فالمسلم مطالب بالحفاظ على دينه، وأن يستفتي قلبه وإن أفتاه الناس وأفتوه، فهو في الحقيقة مفتي نفسه على الحقيقة.

إنه ليس من إيمان العبد أن يبحث عن الشبهات لأجل التوسعة في المعيشة والحياة، وكسب الأموال، فالمال خادم للدين والنفس، فلا يقدم حفظه على حفظ الدين والنفس؛ إذ الدين حافظ للمال، والنفس هي التي تجلب المال وتكسبه، وليس من إيمان العبد التفتيش عن كل فتوى تحل ما قد يكون حراما؛ تسكينا للنفس والضمير، وإلباس المعاملة ثياب الحلال وهي حرام في جوهرها، فالله تعالى سائلا المستفتي كما هو سائل المفتي، فليعد كل امرئ جوابا لسؤال الله تعالى بقلبه وضميره، وليتحر المسلم الحلال في مطعمه ومشربه وتعامله وكل شأنه؛ ولتكن مراقبة الله بصلته التي تهديه سواء السبيل.

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

Related Articles

Back to top button