يقف الناس إزاء الفنون مواقف متباينة، فمنهم من يرفض الفنون جملة وتفصيلا، ويراها رجسا من عمل الشيطان، وخروجا عن هدي الإسلام، ومنهم من ينغمس فيها انغماسا، لا يرى فيها حلالا ولا حراما، فالفن شيء والدين شيء آخر، ومنهم من يرى الفنون مقبولة بصورة ضيقة مع وجوب وجود ضوابط شرعية حاكمة لتلك الفنون.
لكن الإشكالية الأعظم هو أن المنظرين في واد، والمنتجين للفنون في واد آخر، وممارسة الناس في واد ثالث، غالب المسلمين اليوم يتعاملون مع الفنون بمناهج مختلفة ومتنوعة، بل إن نسبة كبيرة من التغيير الحاصل في مجتمعات المسلمين راجعة إلى استعمال الفنون وسيلة لهذا التغيير الذي أثر في حياة المسلمين تأثيرا كبيرا، مما يوجب على المسلمين أن يعيدوا التفكير في التعامل مع الفنون من جديد.
وإعادة التفكير تحتاج إلى النظر إلى مستويين:
المستوى الأول: مستوى التنظير والتأصيل:
وهذا المستوى يجب فيه عدة أمور:
الأول: بيان المباح من غير المباح من الفنون، فليست كل الفنون في الإسلام محرمة، فهناك عدد من الفنون التي أقرها الإسلام،واستعملها الرسول والصحابة لخدمة الإسلام كفنون الأدب واللغة وغيرها.
الثاني: التأكيد على حرمة بعض الممارسات في الفنون وبعض الفنون من أصلها، ففنون الرقص أمام العامة مثلا لابد من التأكيد على حرمته، لأنه يخالف النصوص الشرعية الصحيحة، كما يخالف مقاصد الشريعة الثابتة.
ويبقى أن هناك بعض الفنون تصح أن تكون مباحا وتصح أن تكون محرمة، وحرمتها عائدة إلى الممارسات وليس لذات الفن، فبعض الفنون بالصورة المنتشرة يغلب عليها الحرمة، لكن يمكن أن تكون مباحة عند مراعاة الضوابط الشرعية.
وفي إطار الاجتهاد في الفنون يجب النظر إلى أمرين:
الأول: النصوص الشرعية، وفيها يجب التفريق بين النصوص الشرعية قطعية الثبوت والدلالة، وبين النصوص الشرعية التي يدخلها الظن في الثبوت والدلالة.
فأما التي يدخلها الظن في الثبوت، فلا احتجاج بها، ولا تصلح دليلا على حكم لتحريم، وأما ما يدخلها الظن في الدلالة، فهي مجال واسع للاجتهاد.
يبقى الوقوف على مقاصد الفنون، حتى تراعى في الاجتهاد لما تقرر عند علماء الأصول أن من شروط الاجتهاد بعد الكتاب والسنة واللغة العربية والعرف أن يكون الفقيه المجتهد عالما بمقاصد الشريعة، لأن المقاصد هي الغايات التي جاءت الأحكام لتحقيقها، ومعنى هذا أن الأحكام وسائل للمقاصد، فلا يجوز أن يتعدى الحكم الشرعي المقاصد الشرعية، بل يجب أن تكون الأحكام في إطار تلك المقاصد الشرعية، إن ثبت أنها مقاصد شرعية قطعية أو قريبة من القطع، لا أن تكون مقاصد ظنية ضعيفة الظن، أو أن تكون مقاصد وهمية لا اعتبار لها في الشريعة.
ومن أهم مقاصد الفنون:
أولا- تحقيق المصالح:
فالفنون لا تقف عند حد الترفيه والتسلية كما يفهم البعض، بل قد تكون من الأدوات الاجتماعية لإصلاح الفرد والمجتمع والدولة، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم فنون عصره، كالشعر والنثر والخطابة في الدفاع عن الإسلام، ورغم ما كان في الشعر من محرمات كانت موجودة في عصره، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يفت بتحريم الشعر، وإنما أرشد إلى أن يكون الشعر أداة إصلاح في المجتمع، بل وحث أصحابه على هذا، بل سجل التاريخ قوله صلى الله عليه وسلم:” اهجهم وروح القدس معك”، فهل يعقل أن نقول اليوم: إن الذي يستعملون الفن الصحيح في خدمة الإسلام فإنهم مؤيدون من الله تعالى، مثابون على عملهم؟
وذلك كائن ماداموا قد التزموا ضوابط الشرع في الفن، وحسنت مقاصدهم، وكان الله مبتغاهم في إصلاح المجتمعات من خلال الفنون، ولو كانت معاصرة.
ثانيا- تغيير القناعات:
فالفنون وسائل لتغيير القناعات والثقافات، وكم من مجتمعات تحول من نظام إلى نظام من خلال استعمال تلك الفنون، وبث المفاهيم والأفكار من خلالها، فيأخذها الإنسان تسلية، لكنها تغير قناعاته بشكل غير مباشر ربما لا يشعر به.
ولهذا قد ورد في قواعد الفقه:” للوسائل حكم المقاصد”، فإنه يجب النظر إلى تلك الفنون بناء على ما تحققه من أهداف وغايات ومقاصد، ويمكن من خلالها تغيير قناعات الناس حول قضايا الإصلاح والتماسك الأسري، والإيجابية والتنمية المستدامة، لكن للأسف كثير من القضايا التي يتم تناولها في الفنون هي تسعى لنشر الفساد في المجتمعات الإسلامية، وتبرز الرذيلة، ولكن قل منها من يقدم قيم الإسلام والإنسانية كالتجارب الناجحة حتى يتأسى الناس بها.
ثالثا- التسلية المشروعة:
فمن أهم مقاصد الفنون التسلية، لأنها فطرة يحتاج إليها الإنسان، والإسلام لا يمنع أن يستمتع الإنسان بحياته، ولا يحظر عليه أن يتسلى ويلهو بما أحل الله تعالى، وقد أباح الله تعالى للإنسان الطيبات من كل شيء، فالأصل في الأشياء الإباحة- كما قرر الفقهاء-، وقد قال ربنا سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
رابعا- تحقيق الأمن والسلم الاجتماعي:
إن الفنون لها دور كبير في تحقيق الأمن والسلم في المجتمع، من خلال بث القيم الإسلامية والإيجابية، وذلك عبر الفنون المتنوعة، بما يحفظ سلامة المجتمع من الانحلال والأخلاق السلبية، فيمكن علاج الظواهر السلبية من خلال الفنون، بما يساعد الناس على نبذ تلك السلوكيات الخاطئة، و التحلي بالسلوكيات الإيجابية التي تحفظ للمجتمع وحدته، على اعتبار أن وحدة المسلمين هي من أهم المقاصد الشرعية، وقد قال ربنا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]