خمس صور من الربا المعاصر “د. مسعود صبري”
لا يشك مسلم في حرمة الربا الذي نزلت آيات القرآن بتحريمه، فقد جاءت النصوص في ذلك صريحة، من ذلك قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وغيرها من الآيات الصريحة في تحريم الربا.
ويفهم الناس الربا بأن يذهب شخص لآخر يطلب منه قرضا على أن يرده إليه بالزيادة، وهذه هي إحدى صور الربا، لكن الشبهات حول الربا بدأت تطل على المجتمعات المسلمة حين تعامل الأشخاص مع المؤسسات مثل البنوك وبعض مؤسسات الدولة، وكأن الربا محصور بين الأفراد فيما بينهم، ونسوا أن الفقهاء قسموا الشخصية إلى نوعين، شخصية حقيقية، وهو الفرد الإنسان، وشخصية اعتبارية، وهي المؤسسات والشركات، وللشخصية الاعتبارية حكم الشخصية الحقيقية.
يضاف إلى هذا ظهور عشرات الصور من الربا المحرم، بشكل لم يعهده الناس، خاصة مع ظهور البنوك والمصارف؛ باعتبارها أكبر مؤسسات مالية.
وهذه بعض الصور المعاصرة للربا المحرم التي يكثر شيوعها واستعمال الناس لها بكثرة:
- أولا- فوائد البنوك:
تعد الفائدة على أنواع القروض من أشهر وأكثر أنواع الربا المعاصر تداولا وتعاملا بين الناس، وذلك بأن يضع الإنسان مبلغا من المال في بنك من البنوك ويأخذ عليه فائدة محددة سلفا، مع ضمان رأس المال، وقد أفتت المجامع الفقهية بحرمة الفوائد البنكية واعتبارها من الربا المحرم، فقد أصدر مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف، في مؤتمره الثاني المنعقد في القاهرة في المحرم عام 1385هـ الموافق مايو 1965م، قرارا، جاء فيه: “الفائدة على أنواع القروض كلها ربا، لا فرق بين ما يسمي بالقرض الإنتاجي, وما يسمي بالقرض الاستهلاكي، لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين” .
كما صدر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة 10-16 ربيع الثاني 1406هـ الموافق 22-28 ديسمبر 1985م بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر، قرر أن كل زيادة (أو فائدة) على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد هاتان الصورتان ربا محرم.
وكذلك قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، في دورته التاسعة المنعقدة بمبنى الرابطة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 12 رجب 1406هـ إلى يوم السبت 19 رجب 1406 فقد نظر في موضوع (تفشي المصارف الربوية وتعامل الناس معها، وعدم توفر البدائل عنها)، وفي القرار جاء ما يلي: يجب على المسلمين كافة أن ينتهوا عما نهى الله تعالى عنه من التعامل بالربا، أخذاً وعطاء، والمعاونة عليه بأية صورة من الصور، حتى لا يحل بهم عذاب الله، وحتى لا يؤذنوا بحرب من الله ورسوله.
وجاء من توصيات المؤتمر الثاني للمصارف الإسلامية 1403هـ/1983م بالكويت:
يؤكد المؤتمر أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هو من الربا المحرم شرعاً.
كما أنه قد خرجت آلاف من الفتاوى من دار الإفتاء المصرية بالقاهرة بتحريم فوائد البنوك واعتبارها ربا محرما منذ سنة إنشائها عام 1879م حتى سنة 1987م ، يعني طيلة تسعين سنة كانت دار الإفتاء المصرية تفتي بأن فوائد البنوك محرمة.
وظلت دار الإفتاء المصرية تفتي بالحرمة منذ عهد الشيخ حسونة النواوي الذي جمع بين منصب شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية، ثم الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد خاطر، والشيخ أحمد هريدي، وبكري الصدفي، وعبد المجيد سليم، وعبد الرحمن قراعة، والشيخ حسنين محمد مخلوف، وحسن مأمون ومحمد بخيت المطيعي، والشيخ جاد الحق، وعبد اللطيف حمزة، وثلاث سنوات من تولي الدكتور محمد سيد طنطاوي كان يفتي بالحرمة أيضا، حتى عدل عن ذلك، وأفتى بالحل، ثم جاء الدكتور نصر فريد واصل، فأفتى بالحل، ثم جاء الدكتور أحمد الطيب، فكان يحكي الخلاف ويترك للسائل أن يتخير المناسب له، ثم جاء الدكتور علي جمعة، فكان يحكي الخلاف، ويضع قواعد للتعامل مع هذا الخلاف، وذلك غالب مدته في الإفتاء، وفي أواخر أيامه صدر عن دار الإفتاء فتوى بالحل صادرة من أمناء الفتوى بالدار، وليست موقعة من المفتي.
- ثانيا- التمويل المصرفي للسلع والمشاريع:
وصورته أن يذهب العميل إلى البنك الربوي يريد شراء سيارة أو بيت، أو شراء سلع تجارية أو أي شيء آخر، فيموله البنك بالمبلغ المطلوب حسب إرادة طالب التمويل ومشروعه، ويكون البنك غير مالك للسلعة التي يريدها العميل، وإنما يدفع القرض للجهة التي تملك السلعة، ويسدد العميل ما دفعه البنك بالأقساط مع الزيادة.
وذلك لأن البنك لا يمتلك السلعة، فلا تعد هذه المعاملة بيعا، كما أن عمل البنك هو إقراض العميل ثمن السلعة التي يريدها على أن ترد على أقساط، فهي قرض بفوائد، وإن دخلت السلعة بينهما، لكن البنك نفسه لا يمتلك السلعة، وإنما يمتلك المال ويأخذه بزيادة، وهو الربا الذي حرمه الله تعالى في كتابه.
هذا بخلاف ما إذا كان البنك يملك السلعة نفسها، ويبيعها للإنسان ويجري معه عقد بيع بالتقسيط، فتكون المعاملة هنا حلالا، لأنه من سبيل البيع، ولا فرق أن يشتري الإنسان من بنك أو من مؤسسة مادامت الجهة التي تبيع تملك السلعة ملكا حقيقيا، وهذا يختلف باختلاف أنواع البنوك والمصارف، ويختلف حسب قوانين الدولة، فهناك دول تسمح لبعض البنوك بمزاولة الاستثمار باعتبار أنها بنوك غير ربوية، وفرق كبير بين القرض بالربا وبين البيع ولو كان بالتقسيط، وهذا ما بينه القرآن الكريم بقوله سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 275]
- ثالثا- التورق العالمي:
وصورته أن يذهب الإنسان إلى البنك يريد مبلغا من المال على سبيل القرض، فيقوم البنك بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة من أسواق السلع العالمية، على أن يبيعها بثمن آجل، وينوب البنك عن الإنسان في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر، ثم يسلم ثمن السلعة للمستورق، ويقوم هو بسداد المبلغ على أقساط للبنك.
وقد أفتى بحرمة هذا النوع من المعاملات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19-23/10/1424هـ الذي يوافقه 13-17/12/2003م، حيث قرر مجلس المجمع عدم جواز التورق الذي سبق توصيفه في التمهيد للأمور الآتية:
أن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعاً، سواء أكان الالتزام مشروطاً صراحة أم بحكم العرف والعادة المتبعة.
أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة.
أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة لما سمي بالمستورق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه والتي هي صورية في معظم أحوالها، هدف البنك من إجرائها أن تعود عليه بزيادة على ما قدم من تمويل.
وهذه المعاملة غير التورق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، وقد سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملات حقيقية وشروط محددة بينها قراره…. وذلك لما بينهما من فروق عديدة.
فالتورق الحقيقي يقوم على شراء حقيقي لسلعة بثمن آجل تدخل في ملك المشتري ويقبضها قبضاً حقيقيا ً وتقع في ضمانه، ثم يقوم ببيعه هو بثمن حال لحاجته إليه، قد يتمكن من الحصول عليه وقد لا يتمكن، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تبرير الحصول على زيادة لما قدم من تمويل لهذا الشخص بمعاملات صورية في معظم أحوالها، وهذا لا يتوافر في المعاملة المبينة التي تجريها بعض المصارف.
- رابعا- بيع الذهب المستعمل بذهب جديد مع دفع فرق الثمن:
صورة هذه المعاملة أن تذهب امرأة إلى بائع الذهب ومعها ذهب قديم مستعمل، وتريد شراء ذهب جديد، فتعطيه ذهبها المستعمل، ويحسب ثمنه، ثم تختار من عنده الذهب الجديد، ويخبرها بفرق الثمن، فتدفعه، فهذه المعاملة بهذه الصورة من الربا المحرم، لأنها من باب بيع رديء الجنس الربوي بجيده متفاضلا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما أخرج الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استعمل رجلا على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب ( يعني بتمر جيد)، فقال: «أكل تمر خيبر هكذا؟» قال: إنا لنأخذ الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاث، قال: «لا تفعل: بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا» . يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع النوع الرديء أولا، وهو هنا يوازي النوع المستعمل، ثم يقبضه ثمنه، ثم يشتري بعد ذلك النوع الجيد أو الجديد.
وقد جاء النهي صريحا عن أن يبيع الإنسان الأموال التي يجري فيها الربا مع فارق الثمن، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا» . وفي رواية قال: «الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما»
- خامسا- بيع العملات مع تأخير الدفع:
صورة هذه المعاملة أن يريد شخص بيع عملة بعملة أخرى، وأنه يريد أن يحولها إلى شخص آخر في بلد أخرى، فيتصل على شخص يعرفه يتاجر في بيع العملات، ويقول له: أريد شراء ألف أو ألفين بعملة كذا، وأرسلهم، وسأعطيك ثمنها فيما بعد. ومنها أيضا أن يشتري عملة بعملة أخرى، على أن يدفع له الثمن مقسطا.
وهذه المعاملة من الربا المحرم، لأن بيع العملات يسمى بيع الصرف، وبيع الصرف يشترط فيه عدة شروط حتى يكون صحيحا، منها: التقابض في المجلس، فقد اتفق الفقهاء على أنه يشترط في الصرف تقابض البدلين من الجانبين في المجلس قبل افتراقهما. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا، أن الصرف فاسد.
ودليل ذلك ما أخرجه مسلم عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواءا بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم – إذا كان يدا بيد» . وأخرج الشيخان عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج، فجاء إلي، فأخبرني، فقلت: هذا أمر لا يصلح، قال: قد بعته [ص:555] في السوق، فلم ينكر ذلك علي أحد، قال: فائت البراء بن عازب، فأتيته، فسألته، فقال: قدم النبي – صلى الله عليه وسلم -، ونحن نبيع هذا البيع، فقال: «ما كان يدا بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فهو ربا”.
كما اشترطوا أن يكون عقد الصرف خاليا من الأجل، يعني لابد من تسليم العملتين في نفس الوقت، سواء كان تسليما حقيقيا بدفع المال يدا بيد، أو تسليما حكميا، بوضعه في حسابه في البنك وما شابه هذا. فلابد في بيع العملات من التقابض والتماثل وعدم التأجيل، وعدم الخيار، بأن يكون البيع ناجزا.
- والخلاصة:
أن الربا محرم بكل أنواعه قديمها وحديثها، وحقيقته هو أن يقترض الإنسان مالا من جهة ما في مقابل أن يرد القرض بزيادة، وقد يكون الربا بمعنى البيع مع زيادة أحد العوضين عن الآخر في متحد الجنس، أو البيع مع تأخير قبض العوضين أو قبض أحدهما من غير ذكر أجل، أو البيع بشرط أجل ولو قصيرا في أحد العوضين. فالربا يتعلق بالقرض أو البيع، ولا يتوقف على القرض وحده، وإنما القرض هو أحد صوره.
للمزيد عن صور من الربا المعاصر اقرأ أيضا: