فقهيةقضايا معاصرة

مزالق المفتين

مع عصر الانفتاح الإعلامي ظهر للعوام قبل العلماء خطأ بعض الفتاوى الصادرة ممن ينتسبون إلى أهل العلم، وممن يتصدرون للإفتاء، حتى أصبح تسليط الضوء على أخطائهم من الاهتمامات الإعلامية، بل أضحى من حصاد كل عام أن يكتب (أغرب الفتاوى في عام كذا)، وقد كان في القديم يفتي الرجل الفتوى فلا تعرف إلا في محيطه، ومع كثرة الفتاوى الصادرة من العلماء عبر أكثر من ثلاثة عشر قرنا قبل تضخم النشر، كانت الفتاوى المنشورة قليلة بجوار ما كتب في الفقه من مراجع ومصادر.

ولعل الناس يتساءلون: لم يخطئ المفتون رغم وضوح خطأ بعض الفتاوى عند عوام الناس فضلا عن أهل العلم؟

ولعل من أهم أسباب الخطأ في الإفتاء ما يلي:

  •  عدم الاطلاع على الآراء:

فمما ابتلي به عصرنا ما عرف بعصر التخصص الجزئي، بحيث يكون الباحث متخصصا في فرع صغير من علم جزئي من علم أكبر، فلا يحيط بالفقه مسائله وقواعده، وإنما يدرك بعض المباحث التي كتبها في رسالته الجامعية، وهذا نقص في تكوين الفقيه والمفتي، فقد كان الفقيه يدرس الفقه المذهبي ثلاث مرات، ثم يدرس الفقه المقارن، ويحيط الفقيه بكتب المذهب ودراستها وتدريسيها مما يملكه مكنة الفقه وملكته، فإذا استظهر مسائل الفقه حفظا وفهما سموه ” مقلدا”، وربما رفعه البعض فأسماه : ” مجتهد التقليد“، فإن استطاع أن يرجح بين الآراء؛ ارتفع إلى رتبة ” اجتهاد الترجيح“، فإن استطاع أن يفتي في المسائل التي لم ينص عليها من قبله؛ ارتفع إلى رتبة ” مجتهد التخريج“، هذا بخلاف تلامذة الإمام، الذين بلغوا رتبة (الاجتهاد المستقل) أو مؤسس المذهب الذي بلغ رتبة (الاجتهاد المطلق) كالأئمة الأربعة المشتهرين.

أما في عصرنا، فملكة الفقه قد ضعفت، وندر من العلماء من يستظهر المسائل عن ظهر قلب، وأضحى المتخصصون يفتون بالقواعد العامة دون مراعاة الاطلاع على مسائل الفقه واستظهاره.

  • الجهل بإدراك الواقع:

فبعض من يتصدى للفتوى لا يدرك واقع الحادثة المسئول عنها، بل ينظر إلى النصوص دون معرفة الواقع، فيقع في الخطأ، لأن الخطأ في التصور ينبني عليه خطأ في التكييف ثم خطأ في الحكم.

  • الجهل بتنزيل الحكم على الواقعة:

فهناك بعض المتخصصين في علوم الفقه والشريعة يغلب عليهم التحصيل والاستظهار، لكن ليس لديهم القدرة على تنزيل الحكم على الواقعة، ذلك أن الاجتهاد هو نوع من المعادلات التي تحتاج إلى جهد وإعمال فكر، وهذا يصدق عليهم قول من يقول: ” إنه حافظ وليس بفاهم”. وهذا النوع قد يكون فاهما للواقع، وحافظا للدليل، لكنه ليس عنده القدرة على تنزيل الحكم على الواقعة.

  • التعصب الحزبي:

والتعصب هو من الحوائل التي تحول بين تجرد الفقيه في المسألة، فهو متأثر بمذهبه أو بحزبه أو بانتمائه الفكري، مما يجعله يطوع المسألة حسب الاتجاه السياسي أو الفكري، ولا يجد في نفسه غضاضة من ذلك، لأنه ينطلق من مبدأ أنه على الحق، وما سواه على خطأ، وأنه يدافع عن الدين، وقد لا يقصد بعضهم الانتصار لمذهبه أو حزبه، لكنه تشبع بأفكار حزبه ومذهبه، فأضحى جزءا من تفكيره في اللاوعي.

والحق أن الاجتهاد الفقهي هو ممارسة للعدل في قضايا التشريع، فالفقيه يسعى باجتهاده للوصول إلى العدل، ومن هنا كان التعصب حائلا بينه وبين الوصول للعدل.

يقول الإمام ابن تيمية – رحمه الله في منهاج السنة النبوية (2/ 342):” والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني – فضلا عن الرافضي – قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق”.

والاختلاف الحزبي يورث البغضاء بين المختلفين، ويحول الأخوة إلى عداوة، والتجمع إلى تفرق، والتعاون إلى تحارب، وقد وضع علماء الإسلام علامات على الاختلاف المقبول والاختلاف المذموم، فالاختلاف المقبول لا يورث المسلمين بغضاء في قلوبهم، ولا شحناء في نفوسهم، بخلاف الاختلاف المذموم، ” فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلفت الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة، علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في في شيء وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها.. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك بحدث أحدثوه من اتباع الهوى وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين”.

  • الغرور وحب الشهرة:

هناك من أهل العلم إذا رزق علما ورأى فيه نفسه، مع ضعف مستوى من حوله؛ دخل العجب قبله، ورأى أنه أجدر الناس بالفتيا وتولي المناصب الدينية، وأنه أولى بالناس بالإفتاء والاجتهاد، وهو داء إبليس الذي حذر منه القرآن والسنة وصالحو هذه الأمة، وفي كتاب: (الذريعة الى مكارم الشريعة (ص: 217) للراغب الأصفهاني قال: ” العُجب: ظن الإنسان في نفسه استحقاق منزلة هو غير مستحق لها؛ ولهذا قال أعرابي لرجل رآه معجبًا بنفسه: يسرني أن أكون عند الناس مثلك عند نفسك، وأكون في نفسي مثلك عند الناس، فتمنى حقيقة ما يقدره المخاطب، ورأى أن ذلك إنما يتم حسنه متى عرف هو عيوب نفسه، وقد قيل للحسن: من شر الناس، فقال: من يرى أنه أفضلهم، وقال بعضهم: الكاذب في نهاية البعد من الفضل، والمرائي أسوأ حالًا منه، لأنه يكذب بفعله وقوله، والمعجب أسوأ حالًا منهما، فإنهما يريان نقص أنفسهما ويريدان إخفاءه، والمعجب عمي عن مساوئ نفسه ورآها محاسن وسرَّ بها، قال: ولأن المرائي والكاذب قد ينتفع بهما كملاح خاف ركابه الغرق من مكان في البحر فبشرهم بتجاوزه قبل أن يجاوزه، لئلا يضطربوا خوف الغرق فيؤدي ذلك بهم إلى العطب. وفي الحديث قال النبي – صلى الله عليه وسلم -:” ثلاث مهلكات: شح، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.”

وقد قال إبليس: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لا أطالبه بغيرها: إذا عجب بنفسه، واستكثر عمله، ونسي ذنوبه. وقد قال عمر رضي اللَّه تعالى عنه: ” رحم اللَّه امرأ أهدى إلي عيوبي “، ويجب على الإنسان إذا رأى من غيره سيئة أن يرجع إلى نفسه فإن رأى فيها مثل ذلك أزاله ولا يغفل عنه.

  • طلب الجاه:

وقد كانت المناصب الدينية احتسابا لوجه الله تعالى، فلم يكن فيها تنافس، بل لما استحدثت الوظائف في الدولة كان العلماء الأقدمون يفرون منها، حتى مات بعضهم من شدة التعذيب بسبب رفضهم تولي المناصب، كما هو الشأن مع أبي حنيفة وغيره.

ثم مع تدهور الأخلاق، تنافس العلماء على تولي المناصب، حتى وصلنا إلى عصرنا الذي أصبحت فيه المناصب الدينية جزءا من الحكومة التي يعينها رئيس الوزراء أو الحاكم، وغالبا ما يعين الأقرب للنظام والأرضى له، والأتبع لسياساته.

وقد يدفع هذا المفتي أن يقول ما يعلم أنه يرضي من يعطيه جاها حتى لو لم يطلب منه؛ تقربا إليه، والفقيه الحق هو أبعد الناس بعلمه عن طلب الدنيا، كما قال الله عز وجل:  (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) [هود: 15، 16].

  • الجهل بمقاصد الأحكام:

فاستقامة الأحكام لا تكون إلا بطرفين:

الأول: مراعاة الشروط والأركان، وانتفاء الموانع.

الثاني: معرفة مقاصد الشارع في الأحكام، ذلك أن الشارع له مقاصد عظمى في الدين، من الحفاظ على الضروريات والحاجيات والتحسينيات في الدين والنفس والنسل والعقل والمال والعرض وغيرها، وهي مراعاة في كل الشريعة، لا تتخلف عن باب دون باب، ثم هناك مقاصد كلية في الدين هي أقل من العظمى، وهي مراعاة في غالب الشريعة لا في كل مجالاته، وهناك مقاصد جزئية موجودة في كل حكم من الأحكام الجزئية. وغياب إدراك المقاصد يوقع الفقيه في الخطأ، وإن حافظ على الحكم ظاهرا بالنظر إلى الأسباب والشروط والموانع.

  • اتباع الهوى:

اتباع الهوى مذموم في الشريعة سواء تعلق هذا بالعقيدة أو الشريعة، ذلك أن الإنسان ليس له خيار إلا واحدا من اثنين، إما أن يتبع الدين أو يتبع الهوى، لكن اتباع الهوى في الحكم والفتيا أشد خطرا، وأكبر إثما؛ لأن اتباع الإنسان هواه فيما بينه وبين نفسه؛ ضرره واقع على نفسه، لكن اتباع الهوى في الحكم والفتيا تتعدى إلى غيره إلى عموم المسلمين، ولذا، حذر الله نبيه داود والأنبياء والخلق جميعا من اتباع الهوى في الحكم، فقال: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

يقول الحافظ بن رجب: (ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم وكل منهم يظن أنه يبغض لله وقد يكون في نفس الأمر معذوراً وقد لا يكون معذوراً بل يكون متبعاً لهواه مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض فإن كثيراً كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق وهذا الظن قد يخطئ ويصيب وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم.

وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحاً ويكون فيه مجتهداً مأجوراً على اجتهاده فيه موضوعاً عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقاتلته تلك بمنزلته في هذه الدرجة لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصد الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده.
وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظن أنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.” 

والأخطر في مزالق المفتين أن أخطاءهم ليست محسوبة عليهم، ولا يتوقف ضررها عليهم، وإنما تتعدى إلى إضعاف الدين في قلوب الناس، مما يجعل صلتهم بالدين ضعيفة، واحترامهم له واهنا، ومن هنا، كان الواجب على المفتين أن يتقوا الله فيما أوتوا من العلم والذكر الحكيم.

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى