فقه المجاعة
اعتنى الإسلام بالإنسان بوصفه إنسانا، خلقه الله تعالى، وذلل له سبل الحياة ليعيش فيها منعما مرتاحا، وإن كان مع هذا العيش بعض المشقة لجلب السعادة، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، ولما كان المقصد من خلق الإنسان هو عبادة الله تعالى، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فإن الله تعالى فرض على الإنسان أن يحافظ على حياته، وأن يعتني بها، فإن كان المقصد الأول لله حفظ الدين، فإن المقصد الذي يوازيه هو حفظ النفس، لأنه بغير حفظ النفس لا يتم حفظ الدين.
ومن أجل ذلك جعل الله تعالى حفظ قوام النفس بالطعام والشراب من الضروريات التي لا يمكن للإنسان أن يستغني عنها، بل امتن الله تعالى على قريش وغيرها من البشر أن من عليهم بالرزق الذي يسد جوعهم، فقال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4].
والمجاعة من ابتلاء الله تعالى للعباد، وهي من نوائب الدهر التي لا تقف على زمن دون زمن، ولا مكان دون مكان، ولا شعب دون آخر، فقد حكى ابن كثير – رحمه الله- أنه في سنة 281هـ حصلت مجاعة حتى أكل الناس بعضها بعضا، ووقعت مجاعة سنة 334هـ، حتى أكل الناس الميتة والكلاب، بل كان بعضهم يسرق الأولاد فيذبحونهم فيشووهم ويأكلونهم، وفي سنة 449هـ أكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام، وفي سنة 462هـ ضاعت النفقة على أمير مكة حتى إنه أخذ ذهب الكعبة، وضربها دراهم ودنانيري، وفي مصر في السنة ذاتها أكل الناس الجيف والميتة والكلاب، حتى إنه لم يبق من دواب مصر إلا القليل، وفي سنة 597 اشتد الغلاء بمصر حتى إن الحاكم العادل كفن من ماله نحو مائتي ألف من ماله الخاص، والمجاعات تتكرر في كل عصر ومصر، ولعل الناظر إلى أهل الصومال ليجد الناس يموتون من أجل فقد الماء، ولا يجدون ما يأكلون، ومثلهم في كثير من الدول خاصة في أفريقيا وآسيا.
ولما كان من ابتلاء الله تعالى أن تقع المجاعة على بعض الشعوب كل فترة من السنين، جعل الإسلام للمجاعة فقها وأحكاما، ونقصد بالمجاعة هو وقوع الجوع الذي يكاد يقتل الإنسان، أما مجرد الجوع، فقد يكون من المحامد في الشريعة، فإن الصوم نوع من الجوع خاصة عن الطعام والشراب، وهو مفيد للبدن، مرض للرب.
ومن فقه المجاعة ما يلي:
- أولا: وجوب إنفاق الطعام الزائد عن الحاجة وقت المجاعة:
فقد أوجب الإسلام في وقت المجاعة على كل من عنده طعام يكفيه أن يدفعه إلى الناس الواقعين في المجاعة حتى ينقذوا من براثن الموت، هذا إن كانوا لا يخشون على أنفسهم الموت، أما إن كانوا يخشون على أنفسهم الموت من المجاعة، فلا يجب عليهم بذل ما عندهم، لكن إن كان عندهم ما يفيض عن حاجاتهم، وجب عليهم أن يبذلوا ما عندهم لغيرهم؛ ذلك أن تقديم حفظ النفوس مقدم على تقديم حفظ المال، فالمال يعوض والنفس لا تعوض، وفي الحديث الصحيح عند البزار عن أنس رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به”، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان الكامل عن كل من يبيت شبعان وجيرانه جوعى وهو يعلم، لكنه بخل بما عنده، حرصا وشحا.
وبذل الإنسان الطعام والشراب في المجاعات من أكبر الأعمال الصالحة التي يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، ذلك أن إحياء النفوس من أجل الطاعات وأعظم القربات عند خالق الأرض والسماوات، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
كما أن بذل الطعام والشراب وإخراج الأموال التي اكتسبها الإنسان من كده وتعبه وإنفاقها لأجل إحياء النفوس والمحافظة عليها من مكارم الأخلاق، ودليل على زكاة النفس الطاهرة، وأن صاحبها صاحب معدن أصيل.
بل وصف الله سبحانه وتعالى أهل الجنة أنهم كانوا ممن يطعمون الناس ويعتنون بهم بالصدقات التي تسد رمقهم، وتقيم حياتهم، وإنما يفعلون ذلك ابتغاء الأجر والثواب من الله تعالى، لا انتظارا للأجر ممن يطعمونهم، فقال سبحانه وتعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8، 9].
- ثانيا: جواز أخذ طعام الغير الفائض عند الخوف على الحياة:
بل أجاز العلماء أخذ الطعام من الغير إن لم يأذن به، إن خاف على نفسه الهلاك، لكنه مع هذا، فإنه يضمن قيمة الطعام الذي يأخذه، وهنا نوع من الموازنة بين حفظ النفس من ناحية، وحفظ المال من ناحية أخرى، فيقدم حفظ النفس على حفظ المال، ثم إن المال هنا محفوظ بضمان القيمة.
- ثالثا: جواز أكل الميتة في المجاعة:
ومن الأحكام التي تحفظ حياة الإنسان جواز أن يأكل المسلم الميتة في المجاعة إن لم يجد غيرها من الطعام، كما قال سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، والمجاعة من أعلى درجات الاضطرار.
- رابعا: إيقاف حد السرقة عام المجاعة:
رغم تأكيد الشريعة على ضرورة إقامة الحدود، ومعرفة قول النبي صلى الله عليه وسلم:” لئن يقام حد من حدود الله خير من أن يمطروا أربعين”. ومع ذلك، فإنه قد ورد أن عمر رضي الله عنه لم يقم حد السرقة في عام المجاعة ، وأسقطها عن غلمة حاطب بن أبي بلتعة حينما سرقوا بعيرا لآخر وذبحوه وأكلوه.
ولهذا جاء في جاء في الأثر عمن سألوا كيف يفعلون بالطعام والشراب عند جوعهم وعطشهم: ” كل ولا تحمل، واشرب ولا تحمل”.
ولكن هذه الحالة من السرقة في المجاعة ليست مطلقا، بل لا يقام حد السرقة إلا إذا لم يجد الإنسان ما يشتريه، أو لا يجد مالا يشتري به، فتكون هنا شبهة كونه سرق لأجل الطعام الذي يقيم حياته. ولهذا قال الإمام أحمد: لا قطع في المجاعة.
وقال الإمام ابن القيم:” وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره ، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه فدرئ.
- خامسا: جواز طلب الصدقة في المجاعة:
وقد ذكر الفقهاء أنه يجوز للإنسان أن يطلب الصدقة في عام المجاعة، ولا يجد في نفسه حرجا من ذلك، ولا ينطبق على هذه الحالة أن الإنسان يكره في حقه أن يطلب الصدقة، وأن الواجب عليه أن يتعفف عن مال الخلق، وأن تكون يده العليا لا السفلى، لكن حالة المجاعة تتطلب أن يطلب الصدقة من الغير، غير آثم في نفسه.
- سادسا: أفضلية الصدقة على الحج في عام المجاعة:
نص الفقهاء على أن الصدقة في عام المجاعة أفضل من حج التطوع، ذلك أن الحج من الطاعات القاصرة، التي تعود بالنفس على صاحبها، أما الصدقة في عام المجاعة فهي من الطاعات المتعدية التي ينتفع بها صاحبها من جهة الصدقة والثواب، وينتفع بها الناس ليسدوا به خلتهم، بل يحفظوا بها حياتهم.
- سابعا: جواز إخراج الزكاة في المجاعة:
أبان القرآن الكريم عن الجهات التي تصرف لها الزكاة، وهم الأصناف الثمانية الواردة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، فإن من وقع في المجاعة هم من أولى الناس بالزكاة من غيرهم؛ لأنهم أشد الناس فقرا ومسكنة، وأحوج من غيرهم، وإذا كانت الزكاة تخرج للفقراء ممن عندهم قليل من قوتهم، أو من المساكين الذي عندهم غالب ما يكفيهم لكن ينقصهم شيء قليل من الحاجات، فإن إخراج الزكاة لمن أصيبوا بالمجاعة هم أول من يقع عليهم وصف الفقر والمسكنة، بل أشد من ذلك؛ إذ هم معرضون للموت والوفاة.
بل لو كانت هناك مجاعة، وأخرج كل أغنياء المسلمين زكاة أموالهم ولم تكف الزكاة للحفاظ على أرواح الناس، لكان واجبا على الأغنياء أن يخرجوا أزيد من مال الزكاة، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن في المال حقا سوى الزكاة.“
للمزيد عن فقه المجاعة اقرأ أيضا