قد يظن البعض أن التحريم تضييق على النفس البشرية في سلوكها وتصرفها، والحق أن التحريم هو ضبط لهذا السلوك بما يتوافق مع تحقيق المصالح للناس في معاشهم ومعادهم، ومن الواجب إدراك فلسفة التحريم في الإسلام، ومساحته ونسبته ومناطقه وقواعده وأسسه، حتى يفعل تفعيلا إيجابيا في حياة المسلم.
والتحريم هو أحد أقسام الحكم التكليفي، والحكم هو خطاب الله تعالى للمكلفين من عباده، وهو ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: الاقتضاء:
والاقتضاء أربعة أقسام:
– الأول: الاقتضاء بالطلب اللازم، وهو ما طلب الله فعله على سبيل اللزوم، وهو (الواجب). كوجوب الصلاة والصوم والزكاة على الغني، والحج على المستطيع، وبر الوالدين لمن كان له والدان، وغير ذلك,
– الثاني: الاقتضاء بالطلب غير اللازم، وهو ما طلب الشارع فعله لا على سبيل اللزوم، بل على سبيل الحث والإرشاد، بحيث يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهو (الاستحباب). ومثاله كل النوافل التي لم يوجبها الله تعالى، كنوافل العبادات أو العادات ونحوها.
– الثالث: اقتضاء طلب الترك اللازم، وهو ما طلب الشارع تركه على سبيل اللزوم، بحيث يعاقب فاعله ويثاب تاركه امتثالا، وهو (الحرام)، كحرمة الزنى والربا وأكل مال اليتيم والسحر وعقوق الوالدين.
– الرابع: اقتضاء طلب الترك من غير لزوم، وهو ما طلب الشارع تركه لا على سبيل اللزوم بحيث لا يعاقب فاعله ويثاب تاركه إن كان هذا الترك امثتالا لأمر الله ، وهو ( المكروه)، كالنظر إلى غير موضع السجود في الصلاة، وكالمبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم، ونحو ذلك.
- القسم الثاني: التخيير:
وهو ما يعبر عنه الفقهاء والأصوليون بـ ” المباح” ، أو ” الجائز”. وهو ما لم يطلب الشارع فعله أو تركه، بل خير المكلف بين الفعل والترك، ولا يترتب عليه عقاب ولا ثواب في أصله، لكن المباح بالجزء قد يكون واجبا أو حراما أو مكروها أو مستحبا بالكل، كما أشار الشاطبي، وقد يكون مثابا عليه بالنية، كالأفعال التي يشترك فيها الناس جميعا، أو ما تسمى بـ( الأفعال الجبلية)، كالطعام والشراب والمشي والقعود والنوم والاستيقاظ ونحوها.
- القسم الثالث: الحكم الوضعي:
وهو ما وضعه الشارع علامة على الحكم التكليفي، كالسبب والمانع والشرط والأداء والقضاء والصحة والفساد ونحوها.
- لماذا التحريم؟
التحريم جزء من البناء القانوني لأي نظام في الكون، ذلك أن النفس البشرية لا تستقيم على نظام، وليس كل الناس يكفيهم الوعظ والإرشاد والتنبيه، بل لابد لبعضهم من وجود العقاب الذي يردع من يفكر في ارتكاب المفاسد، سواء أكانت مفاسد دينية محضة، أو دنيوية، وإن كان غالب العقاب متعلق بأمور الدنيا، لكن كما قيل: الحدود زواجر، وأن الشارع لا يتشوف إلى إقامة الحدود، ولهذا وجدنا أن المحرمات التي لها حدود قليلة مقارنة بالمحرمات عامة.
- التحريم بين الشريعة والقانون:
وإن كان البعض يرى في نفسه شيئا في التحريم، فلينظر إلى القوانين الوضعية، فالغالب عليها أنها تميل إلى جانب التحريم والمنع، فغالب القوانين تميل إلى العقوبات بخلاف الشريعة، فالعقوبات فيها قليلة جدا، إذا ما قورنت بالمسموح والمباح، فالشريعة ليست قائمة على التحريم والعقوبات في غالبها كما في القانون، بل قائمة على الإباحة في الأصل.
- كيف نفهم التحريم؟
ولكي نفهم التحريم في الشريعة لابد أن نعرف أنه ما من شيء محرم إلا وفيه ضرر على الناس، فالله تعالى لا يحرم إلا ما كان ضارا، كما في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145]
- كليات التحريم:
ونقصد بالكليات ما هو أكبر من القواعد الفقهية، فهي القضايا الكلية الحاكمة للتحريم، ومن ذلك:
- كل نجس محرم:
فأي شيء يحكم عليه بالنجاسة يكون حراما، والقاعدة أن كل نجس حرام، وليس كل حرام نجسا، وأمهات النجاسات هي كل ميتة نجسة، فالميتة كلها نجسة إلا السمك ، والجراد ، والآدمي ، والجنين بعد ذكاة أمه ، والصيد الذي لا تدرك ذكاته .
والحيوان كله طهارة في الأصل إلا الكلب والخنزير، والجمادات كلها طاهرة إلا المسكر، فالجماد كله طاهر
- كل ضرر محرم:
ومن كليات التحريم أن كل ضرر محرم، والمقصود بالضرر هنا هو أن يلحق الإنسان الضرر بغيره بما يعود على نفسه بالنفع، أو هو الإخلال بمصلحة مشروعة للنفس أو الغير تعديا أو إهمالا متعمدا.
والعمدة في هذا كثيرة في القرآن والسنة، والسنة في بيان الضرر الكلي أوضح، كما في حديث:” لا ضرر ولا ضرار”، و حديث:” من ضار مسلما ضره الله، ومن شاق مسلما شاق الله عليه”.
وعظمة التشريع في تحريم الضرر لا يتوقف على الضرر على الغير فحسب، بل يحرم على المسلم أن يلحق الضرر بنفسه، سواء تعلق هذا بالأمور الأخروية أو بالأمور الدينية، فيسلم الإنسان من شر نفسه، كما يسلم الآخرون منه، مما يتحقق السلم الاجتماعي بين الناس مهما اختلفوا في الاعتقاد والأديان، فسلامة الناس متحققة بحرمة الضرر والإضرار، وذلك من خلال الوازع الديني من المراقبة والخوف من الحساب في الآخرة قبل العقاب من قانون الدنيا.
- كل مستقذر حرام:
ومن كليات التحريم أن كل مستقذر حرام، وهذا وجه من الوجوه الحضارية للإسلام، فهو دين بني على النظافة والأناقة والطهارة، ولهذا جاء حث الشارع في سبعة عشر موضعا للتقريب للنص على الأكل والرزق من الطيبات، كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87].
ولهذا كان وصف النبي صلى الله عليه وسلم في كتب أهل الكتاب كما نص القرآن: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
وفي هذا المعنى يقول الشوكاني إرشاد الفحول (2/ 131):
التحسيني وهو قسمان: الأول: ما هو غير معارض للقواعد، كتحريم القاذورات، فإن نفرة الطباع عنها لقذارتها معنى يناسب حرمة تناولها، حثا على مكارم الأخلاق، كما قال الله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} ، “وحمله الشافعي على المستحب”، وكما قال صلى الله عليه وسلم: “بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. ا.هـ
فما تعافه النفس وتنفر منه الطبائع ولا تقره الفطرة؛ يدخل في باب التحريم.
- الأصل في العبادات الحظر:
وهي قاعدة تشير إلى تحريم الابتداع في العبادات، لأن مقصود العبادة تنظيم علاقة العبد بربه سبحانه وتعالى، فلله أن يتعبدنا بما شاء، وحظ العبد فيها ليس واضحا، كوضوحها في جنب الله تعالى، ولهذا جاء في حديث عائشة – رضي الله عنها-: ” من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”، فهو صيانة للعقائد والعبادات من الانحراف عن كليات الدين.
- ما أدى إلى الحرام حرام:
فكل وسيلة تؤدي إلى ما حرم الله تحرم، من باب سد الذريعة، ولهذا كان النظر واللمس و الخلوة بالأجنبية والتبرج ونحوها محرمة كي لا تؤدي إلى الزنى، ومن هنا جاءت بلاغة القرآن في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]، وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
- التحايل على الحرام حرام:
ومن كليات التحريم أن التحايل على الحرام حرام، ودليله ما ورد في القرآن الكريم من قصة أصحاب السبت، كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].
وفي دليل تحريمها يقول ابن القيم في كتابه: إعلام الموقعين (3/ 128):
“وتلخيص هذا أن الحيل المحرمة مخادعة لله، ومخادعة الله حرام: أما المقدمة الأولى فإن الصحابة والتابعين – وهم أعلم الأمة بكلام الله ورسوله ومعانيه – سموا ذلك خداعا، وأما الثانية فإن الله ذم أهل الخداع، وأخبر أن خداعهم إنما هو لأنفسهم، وأن في قلوبهم مرضا، وأنه تعالى خادعهم، فكل هذا عقوبة لهم، ومدار الخداع على أصلين؛ أحدهما: إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له، الثاني: إظهار قول لغير مقصوده الذي وضع له، وهذا منطبق على الحيل المحرمة، وقد عاقب الله تعالى المتحيلين على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بجد جنتهم عليهم وإهلاك ثمارهم، فكيف بالمتحيل على إسقاط فرائض الله وحقوق خلقه؟ ولعن أصحاب السبت ومسخهم قردة وخنازير على احتيالهم على فعل ما حرمه عليهم.
- والخلاصة:
إن الحرام لا يعني تضييق الدين على الناس، وإنما يعني تنظيم الحياة الاجتماعية بكل أطيافها، بما يحقق العدالة والأمن، ويضبط السلوك الإنساني في المجتمع تجاه النفس والآخرين.