مفاهيم مغلوطة في ولاية الرجل على امرأته
د. مسعود صبري
نقرر ابتداء أنه لا ولاية للرجل على زوجته، لأن الولاية تكون للأعلى تجاه الأدنى، والحياة الزوجية مبنية على الشراكة بين الزوجين، فعقد الزواج هو – في المقام الأول- شراكة اجتماعية بين طرفين، هما الرجل والمرأة، ويتم بإيجاب وقبول بينهما، غير أنه لما كان الزواج شراكة، فهو مثل الشراكات لابد فيه من يدير هذه الشركة الاجتماعية؛ فكان حقا للرجل دون المرأة، غير أن الشراكة قائمة على أن كل واحد منهما له حقوق وعليه واجبات، كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] ، وذلك تقسيما للأدوار في مؤسسة الزواج، وشأن أي نوع من الشراكة، فإن مدير الشركة ليس مطلق التصرفات، بل هو أمين على تطبيق اللائحة الداخلية المنظمة للمؤسسة، وقوانين اللائحة الداخلية للأسرة مأخوذة من الكتاب والسنة؛ فهي لائحة تشريعية تضمن استقامة الحياة الزوجية من لدن رب العالمين.
فالقوامة تعني المحافظة والإصلاح، ومنه قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} وقوله تعالى: {إلا ما دمت عليه قائما} أي: ملازما محافظا. (تاج العروس ، ج33/ 317، و لسان العرب (12/ 497)
وحقيقة القوامة تتمثل في رعاية الرجل زوجته والقيام بمصالحها، وهي بهذا المعنى تخرج عن معنى السلطة، لكن الزوج له حق الطاعة على زوجته في غير معصية، فتكون القوامة لصالح المرأة؛ فزوجها هو قيمها الذي يرعى مصالحها وفق ما أبان الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة، ووفق ما تكون فيه مصلحة الأسرة والحياة الزوجية.
أما الولاية فهي سلطة تخول صاحبها التصرف في شؤون المولى عليه دون الرجوع إليه أو أخذ إذنه، والحق أن هذا المعنى لا ينطبق على العلاقة بين الرجل وزوجته، وإنما يتعلق بعلاقة الفتاة بأبيها أو جدها، وكذلك قد تكون للولد إن كان بالغا، فيتولى عقد النكاح عن أمه، كما تولى عمر ابن أم سلمة نكاح أمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قالت له: ” قم فزوج رسول الله” ، بل قدم بعض الفقهاء ولاية الولد على الأب في النكاح.
ولكن يأتي التساؤل هنا: لما جعلت الولاية لأصل الزوجة كالأب والجد، وجعلت القوامة للزوج؟
والجواب: أن الولاية لما كانت سلطة تصرف بغير إذن المولى عليها، كان من الأوفق أن تكون لمن سعيه لمصلحة المرأة من باب الفطرة لا من باب التكسب والمجاهدة، وأن الوالد ومن في مقامه -في غالب الأمر- يكون سعيه لمصلحة ابنته ليس محلا للخلاف، فهو مفطور على ذلك؛ فوافق أن تكون له السلطة، ومن خالف هذه الفطرة، كأن يتعسف بعض الآباء في تزويج بناتهم؛ فإن من حق البنت أن ترفع أمرها للقاضي؛ لأن صاحب سلطة الولاية – وهو الأب – خالف المقصد الشرعي الذي من أجله جعل الشارع السلطة في يده، فترفعه إلى من هو أكبر منه، وهو الحاكم ومن يقوم مقامه من القضاة، وهو ما يعرف في الفقه بـ” تعسف الولي“، فإن كان الزوج المتقدم كفئا لها؛ أجبر القاضي صاحب سلطة الولاية كالأب على الموافقة، أو نزع منه السلطة، وتولاها هو وزوجها من الكفء لها؛ لأن (الولاية منوطة بالمصلحة)، كما قرر الفقهاء في قواعدهم.
أما القوامة فهي للرجل على زوجته، والقوامة هو أن يقوم على مصلحتها من الإنفاق عليها، وحمايتها وحراستها، وتدبير شأنها؛ فهذا من مقتضيات عقد النكاح، وفي المقابل، فله عليها حق الطاعة، والقرار في البيت إلا بإذنه، وأن تحفظ نفسها وماله، فكانت القوامة من مقتضيات عقد النكاح، فلا محل للسلطة هنا؛ لأن عقد النكاح شراكة اجتماعية قائمة على الحقوق والواجبات المتبادلة، فناسبها القوامة لا الولاية، وهو باللغة المعاصر ما يسمى بالمدير، كما هو الشأن في كل الشراكات.
ومما لا شك فيه أن الولاية أقوى من القوامة، وحق الوالد أكبر من حق الزوج، غير أن انتقال المرأة من بيت أبيها إلى بيت زوجها؛ أوجب طاعة الزوج؛ باعتباره أحد بنود عقد النكاح، وطاعة المرأة زوجها في بيت الزوجية مقدمة على طاعة والدها، إن كان ثمة تعارض بين طاعة كل منهما، أما إن كان يمكن الجمع بينهما، فتطيع المرأة والدها كما تطيع زوجها؛ لأن طاعة الزوج غير ناسخة لطاعة الوالد..
بل استثنى بعض الفقهاء من وجوب استئذان المرأة زوجها في الخروج بر الوالدين، والقيام بشأنهما خاصة في حالة المرض الذي لا يجد الوالدان معه من يقوم بتمريضهما إلا ابنتهما، واستثنى الفقهاء استئذان الزوج في حج الفريضة؛ لأن حق الله تعالى مقدم على حج الزوج.
على أنه لا يتصور أن المرأة حبيسة الوالد والزوج وأنه لا حق لها في نفسها، بل قرر الفقهاء أن الولاية أنواع، منها الولاية على النفس، والولاية على الغير، ومثلوا على الولاية على الغير ولاية الأب على ابنته في النكاح، لكن المرأة قد تكون لها ولاية خاصة على نفسها، سواء كانت في بيت والدها أو في بيت زوجها، فهي لها ولاية خاصة على نفسها في مالها، وقد قرر الفقهاء أن للمرأة ذمة مالية خاصة، سواء كان هذا المال من كسب يدها بموافقة زوجها للخروج للعمل، أو كان من ميراث، أو من هبة، أو من أي طريق شرعي، ولا يحل للزوج أن يتدخل في مال زوجته إلا بالنصيحة والإرشاد، وليس له عليها ولاية أو قوامة ولا أي نوع من السلطة، وقد تتاجر المرأة وهي في بيتها، أو تدير أموالها دون أن تخرج، فإن احتاجت للخروج استأذنت زوجها.
على أن الأولى ونحن نقرر حق المرأة وولايتها على نفسها في مالها أن تكون هناك شورى بين المرأة وزوجها ؛ لأنهما يعيشان تحت سقف بيت واحد، وفي شراكة اجتماعية واحدة؛ فكان من الأولى أن تشاور المرأة زوجها، وتأخذ رأيه في بعض شؤونها من باب الاختيار، وليس من باب الإجبار، وهو أولى أيضا في حق الرجل أن يستشير زوجته في بعض ما يخصه، وإن لم يكن واجبا عليه، فالله تعالى أمرنا بالشورى في حياتنا، وجعلها من صفات عباده المؤمنين، فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]..
فليس من الحكمة أن يتصور أن كلا من الزوجين في معزل عن الآخر في الحياة، وأن كلا منهما يتصرف دون معرفة الآخر، لأن قوام الحياة الزوجية على السكن والمودة؛ كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] ومن لوازم السكن والمودة مشاركة كل منهما الآخر في شأنه.
وليس من الصواب أن يتصور الرجل أن قوامته على زوجته هي نوع من التسلط، فهو قيم البيت، ومديره المستأمن عليه أمام الله تعالى، وأن القوامة تكليف قبل أن تكون تشريفا، وأن عليه أن يطبق قانون الحياة الزوجية ولائحته الداخلية المستقاة من تعاليم ديننا الحنيف، وأن الزوجين عند الاختلاف يرجعان إلى تحكيم الكتاب والسنة، فإن وافق رأي الزوجة الكتاب والسنة؛ كان الزوج أسرع الناس إلى العمل به، ولا تأخذه العزة بالإثم رافضا رأي الشرع؛ لأنه خالف رأيه، وكذلك الشأن في الزوجة إن كان رأي زوجها موافقا للكتاب والسنة كانت أسرع الناس إليه، فإن لم يكن في الكتاب والسنة رأي للاختلاف بينهما؛ كان الرجوع إلى أهل العلم من الفقهاء؛ فإنهم أفهم لمراد الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كان الخلاف في الأمور الحياتية؛ كان المرجع إلى مصلحة الأسرة والحياة الزوجية؛ فإن تساوى الأمر؛ وجب على المرأة الإذعان لأمر زوجها؛ لأنه مدير الأسرة، وهو محاسب أمام الله تعالى على ما يتخذه من قرارات وآراء، وعلى المرأة أن تذعن لذلك؛ لأنه من مقتضيات حق القوامة لزوجها عليها، وبذلك تسقيم الحياة، ويرتفع الخلاف، ولا يبقى البيت على شفا جرف هار، كل متمسك برأيه دون أن يقبل رأي الأخر.
وإن أحست المرأة بالظلم ورأت سوء استعمال حق القوامة من الرجل؛ كان التحكيم العرفي هو أولى خطوات الإصلاح، كما قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، فإن لم يتم الإصلاح بينهما بسبب تعسف من أحد الطرفين؛ كان اللجوء للقضاء هو الطريق الأمثل للإصلاح؛ على أنه يراعى في ذلك تقوى الله تعالى والصدق وعدم التلفيق، واعتبار القاضي – وهو نائب عن الحاكم- ولي المسلمين، فهو مثابة المرجع عند الاختلاف، والذهاب إليه إنما هو لاستجلاء الحق في الخلاف، ولمعرفة من أحق منهما، وأقرب لرأي الدين والشرع؛ فإن أبان القاضي الحق؛ وجب الالتزام به، ولا يعد ذلك انتصارا لطرف دون طرف، بل هو معرفة أي الطرفين كان رأيه أقرب للصواب، وعلى القضاة أن يدركوا معنى الولاية في الحياة الزوجية، وألا يساء فهمها على أنها نوع من التسلط، وأن يتعاملوا مع الزوجين على اعتبار أن الأسرة مؤسسة فيها شركاء، وإن كان لأحدهما من الصلاحيات أكثر من الآخر.
وحين يدرك كل من الزوج والزوجة ميثاق الحياة الزوجية، وما لكل منهما من حقوق وما عليه من واجبات فإن ذلك أدعى إلى بقاء الأسرة قوية متماسكة، وأن الحياة الزوجية في أصلها لا تقوم على الحقوق والواجبات، بل تقوم على الفضل قبل العدل، وعلى الإحسان قبل القسط، وعلى المسامحة قبل المحاسبة، وعلى الغفران لا على الخذلان، وعلى المودة لا على الشدة، وإن كان ثمة خلاف؛ ففي كتاب الله بيان الهدى فيه.
وليعلم أن كثيرا من المشاكل في الحياة الزوجية إنما مردها الجهل بالأحكام الشرعية، أو ترك تطبيقهاـ فإن الشارع الحكيم وضع دستورا واضح المعالم، مضمون النتائج في استقامة الحياة الزوجية؛ فمن اتبعه هدي، ومن تركه فقد ضل ضلالا مبينا.
وما أحوج المسلمين اليوم إلى اعتبار الدين مرجعا في حياتهم؛ لأنه من لدن حكيم خبير، فهو سبحانه يعلم ما لا تعلمون، وحكمه أبلغ حكم؛ لأنه من عند أحكم الحاكمين، فمن رام السعادة؛ وجب عليه أن يجعل القرآن دستوره في الحياة الدنيا، كي يكون قائدة في الحياة الآخرة.