الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فقد ورد إلى لجنة الفقه والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سؤال عن حكم الشرع في مسألة أداء صلاة الجمعة والاستماع لخطبتها عن طريق التلفاز والمذياع ووسائل الاتصال الحديثة، وذلك لتعذر أدائها في المسجد بسبب وباء كورونا. ونحن إذ نشكر السائل الكريم على هذا السؤال المهم، نكبر فيه حرصه وحرص غيره من المسلمين على شعائر الله تعالى وأحكامها، وعلى تعلق قلوبهم بها، والتقيد بما تصح به العبادة وتقبل من الله سبحانه بإذنه.
وبيانا للحكم الشرعي في هذه المسألة نقول:
إن أداء صلاة الجمعة والاستماع لخطبتها بالتلفاز والمذياع ونحوهما لا تجوز شرعًا؛ لمخالفتها للشروط والأركان الشرعية، ولما تفضي إليه من مآلات فاسدة، ومخالفةٍ صريحة لمقاصد الجمعة والجماعات، ويسعُ الناسَ إذا تعذرت عليهم صلاة الجمعة في المساجد، أن يعملوا بالرخصة الشرعية البديلة وهي صلاة الظهر، دون تكلف ولا تعسف، وذلك للأسباب والاستدلالات التالية:
أولاً:
إن صلاة الجمعة هي الفريضة التي أمرنا الله تعالى بها في وقت الظهر من يوم الجمعة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]. ولصلاة الجمعة مقاصد إيمانية واجتماعية ومعرفية وسلوكية كبرى ينبغي جريان الفروع على وفاقها، كما خص الشارع الغسلَ والتبكيرَ والسعيَ إليها بأحكام ورتب عليه الثواب العظيم. ولما كانت صلاة الجمعة عبادة من أعظم العبادات، ولها شرائط وهيئات، فإنه لا يصح الإتيان بها إلا على الوجه الذي شرعه الله تعالى فيها من شرائطَ وأركان تتعلق بمكانها وزمانها وعددها وهيأتها. وقد تواتر عمل الأمة على ذلك، فهي عبادة توقيفية لا مجال للزيادة أو النقصان فيها، وما شرعه الله تعالى فيها مؤقتًا بزمان، أو محددًا بمكان، أو موصوفًا بهيئة؛ فيجب التقيد به حال القدرة والاستطاعة فإن تعذرت الاستطاعة صليت ظهرا.
وقد يطرأ على صلاة الجمعة عوارض تمنع من أدائها جماعة في بيت الله، كالمطر الشديد، أو الخوف، أو المرض. ونحو ذلك مما يُعجِز المكلّفَ عن استيفاء شروطها؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يُجبه فلا صلاة له إلا من عذر) قالوا: يا رسول الله وما العذر؟ قال: خوف أو مرض) رواه ابن ماجه برقم793، وهو صحيح على شرط مسلم؛ والخوف هنا عام يشمل كذلك الخوف من إصابة المرض أو العدوى به؛ وقد يكون هذا العارض خاصا بفرد، كما قد يشمل بلدا كاملاً، أو العالم كله كما حدث معنا هذه الأيام في وباء كورونا، وعندها ينتقِل الحكم الشرعي إلى الاستثناء والرخصة التي شرعها الله تعالى وأحبّها، فتقوم الرخصة مقام العزيمة ويكون الاستثناء بديلا عن الأصل. وقد ذكر الفقهاء من جملة الأعذار الشرعية لترك الجماعة والجمعة “الحبس في مكان”، وهو يشمل كل من حُبس في مكان لا يُسمح له بمغادرته، وهو حال كثير من المجتمعات التي يُمنع الناسُ فيها اليوم بسبب الوقاية من الوباء من الخروج من بيوتهم إلا في ضرورات قصوى، ويُعاقب كل من يخالف ذلك؛ والرخصة هنا هي صلاة الظهر، فتسقط الجمعة لوجود العذر، ولا يجوز أن يُخترعَ بديلٌ متعلق بهيأتها، أو محلها، ولا أن يُستحدث في دين الله تعالى شيء جديدٌ، حال وجود رخصة تَنقلُ عن صفة الأصل وذاته، وتغني عن التلفيق بين صور العبادة، والتكلف في أدائها. كأن يُستبدَل بالاقتداء الحقيقي بالإمام، اقتداءٌ مجازي (أو افتراضي) بوسائل التلفاز والمذياع ووسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها، فهذا يناقض حقيقة صلاة الجماعة وجوهرها، الذي هو الاجتماع خلف إمام يقتدى بأفعاله وأقواله في الصلاة في مكان واحد، لقوله صلى الله عليه وسلم “إنما جعل الإمام ليؤتم به. فإذا ركع فاركعوا. وإذا رفع فارفعوا. وإذا صلى جالسا، فصلوا جلوسا”. خرجه مالك في الموطأ مالك، رقم 447، ج2 ص186، والبخاري، في صحيحه رقم 688، ج 1، ص139، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، ووجه الاستدلال به أن الائتمام يطلق شرعا على اجتماع الإمام والمأموم في الصلاة في مكان واحد دل عليه السنة الفعلية وعمل الصحابة والأمة واتفاق المذاهب.
كما أن الصورة المسؤول عنها تناقض مقصود الشارع من لقاء المسلمين على صعيد واحد لقاء حقيقياً وليس افتراضيا بالاجتماع الإلكتروني.
وقد اشترط الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة لِصِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ في الصلاة أن يجمعَ المأموم والإمام مكانٌ واحد.
وقد جاء في الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من اغتسل؟ ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام» صحيح مسلم (2/ 587)، والحديث يذكر أعمال الجمعة المخصوصة من غسل وإتيان إلى مكان إقامة الجمعة وهو المسجد، ثم السماع إلى الخطبة والصلاة مع الإمام.
ثانياً:
إن هذه الهيأة-الواردة بالسؤال- لها مآلات تعود على هذه العبادة بالنقض، وتُضعِف مقاصدَها التي من أجلها شُرِعت، فالجمعة عيد المسلمين الأسبوعي الذي يجتمعون فيه على صعيد واحد، فيتعارفون ويتصافحون ويتفقدون أحوالهم ويتعاونون على البر والتقوى….
كما أن هذه الهيأة تُفضي لابتداع صورة جديدة لصلاة الجمعة والجماعة، كأن يصلي الناس خلف إمام الحرم عبر التلفاز، أو خلف إمام الحي من البيوت، ولا يخفي ما في ذلك من ابتداع هيأة مُخترعة للصلاة، وذهابٍ بشروطها وأركانها ومقاصدها. في حال وجود رخصة تغني عن كل ذلك، وهي رخصة استبدال الجمعة ظهراً، والاستبدال مقيد بالنص فيتوقف عنده.
ثالثاً:
إن إحداث هذه الكيفية للجمعة والخطبة، وفضلا عن المخالفات الشرعية الصريحة، يؤدي إلى إخلال بالمقاصد العالية التي تتعلق بالجمعة من حيث كونها مقوما من مقومات الأمة الإسلامية، وعنصرا من عناصر الانتظام في المجتمع والدولة، ورافدا تربويا وتثقيفيا يعزز مهارة الانتماء والمشاركة والفعالية، ويقلل من حالات التفرق والتنازع؛ فيما يقوى الرابطة الإسلامية والإنسانية، ويعظم الأثر التنموي والحضاري.
رابعاً:
توصي اللجنة المسلمين والمسلمات بالتقيد في مجال العبادات بما أثبتته النصوص الشرعية واجتمع عليه عمل الأمة، وأما في مجال المعاملات فالتوسع في القياس والاجتهاد مطلوب، كما نوصيهم بالثبات على دينهم وملازمة أهل العلم المحققين في فتاواهم، وأن لا يتساهلوا في محكمات الشريعة وأصولها ومقاصدها. ونرجو أيضا من السادة العلماء والهيئات العلمية إقامة التشاور العميق، والإفتاء الجماعي في القضايا العامة والنوازل الكبرى، حفظاً للمسلمين من التفرق والنزاع، وحرصاً على العيش الآمن والسلامة للإنسانية كافة، وخاصة في هذه المرحلة الصعبة التي سوف تنتهي بمشيئة الله ثم بجهود المرابطين في الأوطان والعمران بخير بعافية دائمة وسلامة للجميع.
واله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلم .
والحمد لله رب العالمين.
لجنة الفقه والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الشيخ الأستاذ الدكتور نور الدين الخادمي رئيسا
الشيخ الدكتور فضل مراد عضوا ومقررا
الشيخ الأستاذ الدكتور أحمد جاب الله عضوا
الشيخ الدكتور سلطان الهاشمي عضوا
الشيخ الدكتور أحمد كافي عضوا
الشيخ ونيس المبروك عضوا
الشيخ سالم الشيخي عضوا
الشيخ الأستاذ الدكتور علي القره داغي أمين عام الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الشيخ الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين