الصلاةالفتاوىفتاوى كورونا

صلاة الجمعة في البيوت

السؤال: هل يمكن نظرًا  لتعليق الصلوات في المساجد في هذه الظروف أن تُصلَّى الجمعة بمجموعة من ثلاثة أو أكثر في المنزل أو مكان العمل، حيث يؤمّهم أحدهم فيخطب ويصلون الجمعة ركعتين؟ أم أنه لا تجوز صلاة الجمعة إلا في المساجد؟

 
الجواب: صلاة الجمعة في البيوت على الصفة المذكورة لا تجوز شرعًا، ولا يَسقط فرض الجمعة بها، والواجب شرعًا هو لزوم البيوت حفاظًا على النفس والغير، وصلاة الظهر بدل الجمعة مهما طال الوقت؛ لأنّ الرخصة عند الاستثناء يبقى حكمها ما بقي سببها، وهو ما أفتت به دور الفتوى في العالم الإسلامي، وما قال به أغلب الفقهاء المعاصرين، ويُستدل على عدم صحة صلاة الجمعة في البيوت بما يلي:

 
أولًا: الأصل في صلاة الجمعة التعبديّة والتوقيفية، قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ “صلوا كما رأيتموني أصلي”، وقد صلّى النبيّ- صلى الله عليه وسلم- الجمعة على هيئة وصفة مخصوصتين، وبيَّن بفعله ما أُجمل في القرآن الكريم من أمرٍ بالسعي إلى الجمعة، كما تَرَكها في أحوالٍ أخرى مع القدرة على أدائها في البيوت، ولا يُتصور شرعًا أن يتركها وهو مخاطبٌ بها، كما لم يثبت عنه- صلى الله عليه وسلم-  ولا عن الصحابة الكرام، ولا عمّن بعدهم، أنّهم صلوها على غير هيئتها وصفتها الشرعية التعبدية ولو مرّة مع إمكان ذلك، ولهذا كان أهل العوالي في زمن النبيّ- صلى الله عليه وسلم- يعطِّلون مساجدهم يوم الجمعة، للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسل،م ولم يُؤذن لهم في إقامتها في بيوتهم أو مساجدهم.

ثانيًا: إنّ الجمعة شعيرة من شعائر الله، وكونها شعيرة فهذا يقتضي إظهارها والإعلام بها ليحضرها الناس، وصلاتها في البيوت منافٍ لذلك، لهذا شُرط لها الأداء في مكانٍ معلوم مخصص لصلاة جماعة المسلمين عند من لم يشترط لها المسجدية، وبه يتحقق أعظم مقاصد الجمعة وهو اجتماع المسلمين.

ثالثًا: القول بجواز صلاة الجمعة في البيوت يتخرج على رأي الحنفية في العدد الذي تنعقد به الجمعة، ولا يصحّ التخريج عليه إلا بتحقيق بقية شروط الحنفية كشرطهم أن تؤدّى بإذن عام يستلزم الاشتهار بإقامتها في مكان بارز معلوم لكل الناس مع فتح الأبواب للقادمين إليه، وهو ما لا يتحقق في البيوت بحال، كذلك فإن تصحيح صلاة الجمعة في البيوت يقوم على تلفيق بين المذاهب الفقهية لا يتفق مع شروط أيّ مذهب وصلاة الجمعة عليه، وينتهي إلى صورة تلفيقية مرفوضة عند علماء الأصول.

رابعًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” رواه الشيخان، وصلاة الجمعة في البيوت قولٌ محدث لم يقع في التاريخ ومع الأوبئة والطواعين، وليس نازلة جديدة تستوجب اختراع صورة محدثة لصلاة الجمعة لم يقل بها أحد، فقد وقع إيقاف الجُمع والجماعات غير مرة في تاريخ الإسلام، ولم يقل أحد بإقامة الجمعة على غير ما قامت عليه في العهد النبوي وما بعده، ومن وقائع إيقاف الجمع والجماعات ما ذكره الذهبي قال: وَكَانَ القَحْطُ عَظِيْمًا بِمِصْرَ وَبَالأَنْدَلُس وَمَا عُهِدَ قَحْطٌ وَلاَ وَبَاءٌ مِثْله بقُرْطُبَة حَتَّى بَقِيَت المَسَاجِدُ مغلقَة بِلاَ مُصَلٍّ وَسُمِّيَ عَام الْجُوع الكَبِيْر. سير أعلام النبلاء (13/ 438)، والمقريزي قال: وَبَطلَت الأفراح والأعراس من بَين النَّاس فَلم يعرف أَن أحدا عمل فَرحا فِي مُدَّة الوباء وَلَا سمع صَوت غناء. وتعطل الْأَذَان من عدَّة مَوَاضِع وَبَقِي فِي الْموضع الْمَشْهُور بِأَذَان وَاحِد، وغلقت أَكثر الْمَسَاجِد والزوايا. السلوك لمعرفة دول الملوك (4/ 88)، وفي سنة 827ه يقول ابن حجر: وفي أوائل هذه السنة وقع بمكة وباء عظيم بحيث مات في كل يوم أربعون نفسًا، وحصر من مات في ربيع الأول ألفًا وسبعمائة، ويقال إن إمام المقام لم يصل معه في تلك الأيام إلا اثنين وبقية الأئمة بطلوا، لعدم من يصلي معهم. إنباء الغمر بأبناء العمر (3/ 326). 

خامسًا: يَمنع جمهور الفقهاء تعدد الجمعة في البلد الواحد؛ تحقيقًا لمعنى الاجتماع والتلاقي، وتكثيرها بكثرة المساجد يناقضه، وقد أفرد الشيخ تقي الدين السبكي المسألة برسالة خاصة سماها: {الاعتصامُ بالواحد الأحد من إقامة جمعتين في بلد}، ورجَّح القولَ بعدم جواز تعدّد الجمعة إلا للحاجة، ثم قال:”وأما تخيل أن ذلك -أي تعدد الجمعة- يجوز في كل المساجد عند عدم الحاجة، فهذا من المنكر بالضرورة في دين الإسلام” فتاوى السبكي 1/180 .فماذا عساه يقول عن تعدّدها في البيوت؟ وإذا كان الفقهاء يمنعون تعدّد الجمعة في البلد الواحد رغم أدائها في المسجد، وبحضور الإمام والعدد الكثير، فهل يُجوزون تعدَّدها في البيوت دون إمام وبثلاثة أفراد تعدَّدًا لا يُحصى حتى يبلغ الآلاف في البلد الواحد؟ وهل يُقبل عقلًا أن تقام عشر جمعات أو يزيد في بناية واحدة؟ 

سادسًا: بناءُ القول بالجواز على أصل الضرورة لا يصح؛ لأنّ شرط الضرورة أن يكون المكلف مخاطبًا بها، والصحيح سقوط التكليف بها بسبب عذر الجائحة بل تسقط بما دونه من الأعذار كالمطر، ومن مآلات القول بإقامة الجمعة في البيوت مداومة الناس عليها بعد زوال الجائحة واستهانتهم بالذهاب إلى المساجد، خاصة أنّ من قال بجوازها من المعاصرين لم يؤسِّس قوله على الجائحة، وإنما على أقوال فقهيّة عامة تصدق على الأحوال والأوقات كلّها.

سابعًا: فاضَلَ العلماء بين الجمعة وبين يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يجمعهما من الاجتماع والدعاء حتى قال ابن القيم: “صَلَاةُ الْجُمُعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ آكَدِ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَجْمَعٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ وَأَفْرَضُهُ سِوَى مَجْمَعِ عَرَفَة” فهل يصح أن تكون فريضة بهذه المنزلة تؤدّى بثلاثة أفراد في البيوت؟

إنّ صلاة الجمعة بصورتها وشرائطها المعروفة من مفاخر الإسلام ومن نِعم الله على المسلمين، وقد ذكر ابن القيم في كتابه زاد المعاد أنّ صلاة الجمعة خصّت عن غيرها من الصلوات بثلاثٍ وثلاثين خاصيّة كالاجتماع، والعدد المخصوص، واشتراط الإقامة، وغيرها، وتصحيح صلاتها في البيوت يفوّت هذا الامتياز وتلك الخصائص للجمعة، فعلى الأئمة وعموم المسلمين أن يتمسكوا بصفتها وصورتها الشرعية، وأن لا يبدلوها بصورٍ أخرى ما قصَدَها ولا عناها الفقهاء الأُوَل بحال، وهي اجتهادات تُعسّر ما يسّرَه الله، وتضيِّق ما وسَّعه.

 

فتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته الثلاثين، المنعقدة بتقنية(ZOOM) التواصلية
في الفترة من 1 إلى 4 شعبان 1441ه
الموافق 25-28 مارس (آذار) 2020م

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

Related Articles

Back to top button