بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
بيان حكم تعليق صلاة الجمعة والجماعات للحد من انتشار وباء كورونا كوفيد -19 (Covid-19)
فإن مما قدر الله تعالى على الناس في عصرنا، هذا الوباء كورونا كوفيد -19 (Covid-19) الذي انتشر حتى عم الآفاق، وتكاتف الناس من كل حدب وصوب وبكافة تخصصاتهم لمقاومة آثاره وتخفيف أضراره والحد من انتشاره.
واقتضت الأمانة التي حملها الله عز وجل علماء الشريعة أن يقولوا في هذه النازلة ما يسهم في تخفيف هذه الأضرار وحفظ أنفس الناس وأرواحهم وإقامة أمر دينهم على أسس واضحة متينة من أدلة الشريعة المطهرة وقواعدها الراسخة ومقاصدها المحكمة.
فنقول وبالله التوفيق:
إن هذا الوباء – بناء على ما تواتر من معلومات وحقائق طبية- يتصف بالخطورة، حيث إنه لا علاج منه معروفا حتى يومنا هذا، وإن المصاب به يحتاج إلى كثير من الحالات إلى رعاية خاصة في المستشفيات والعزل الوقائي. ومن حيث إنه سريع الانتشار بحيث تتضاعف أعداد المصابين به بمتوالية هندسية يصعب السيطرة عليها مع نتائجها لو ترك الناس لسلوكهم اليومي الاعتيادي.
وعلى هذا، فإن النظر الفقهي في حضور صلاة الجمعة والجماعات أثناء فترة هذا المرض من جهتين:
الجهة الأولى: من حيث كونه خطرا على الفرد ، ولهذا حالان:
أولا- إما أن يكون المرء مصابا بهذا المرض، فالواجب في حقه العزل عن النس للمدة التي يبرأ فيها ويتعافى ويصبح مأمون المخالطة لا يعدي ولا يعدى، ويحرم عليه في هذه الفترة حضور الجمع والجماعات في المساجد، ويأثم بهذا الحضور، بل يأثم بأي نوع من مخالطة الناس ولو أخذ احتياطاته من لبس كمامة وتعقيم يديه، لأنه لا يؤمن من نشره لمرض في هذه الحالة.
ثانيا- أو أن يخشى الإنسان على نفسه من أن ينتقل إليه المرض، أو على أهله الذين يخالطهم في منزله أن ينقل لهم العدوى.
الجهة الثانية: من حيث كونه خطرا على المجتمع:
فالذي ينبغي أن يتصوره من يتصدى للفتيا في هذا الأمر ، أن هذا المرض بسرعة انتشاره بسبب زيادة كبيرة في الأعداد التي تحتاج للرعاية الخاصة بشكل يفوق قدرة الأجهزة الطبية في الدولة، بحيث تعجز عن تقديم الخدمة للمرضى جميعا في وقت قصير، وينتج عن ذلك وفيات كثيرة تموت بسبب عدم وجود إمكانية لتقديم الخدمة.
وهنا نقرر أولا القواعد والأدلة الشرعية التي يبنى عليها القول في هذه المسألة:
أولا- قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، فإحياء النفس والمحافظة عليها مقصد عظيم من مقاصد الشريعة لا يماري فه عاقل.
ثانيا- قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238، 239]، فقد أذن الله في حال الخوف بترك بعض أركان الصلاة هيئاتها التي لا تصح إلا بها، وإن ترك الجماعة والجمعة أخف من ذلك في حال الخوف.
ثالثا- تقرر في قواعد الشرع أن تصرف الراعي على الرعية منوط بالمصلحة، فإذا قرر المختصون من أهل الطب ومن يتابع حالة هذا المرض في الدولة أن صلاة الجمعة والجماعة تسهم في زيادة عدد المصابين إلى الحالة التي أشرنا إليها، جاز لولي الأمر أن يأمر الناس بترك الجمع والجماعات والصلاة في البيوت، بل وجب عليه ذلك، إعمالا لهذه القاعدة، ولأن مصلحة المجتمع إنما هي في تقليل هذا المرض وأعداد المصابين به اتقاء للنتائج التي لا تحمد.
رابعا- أنه تقرر في قواعد الشرع أن الضرر الأخف يرتكب اتقاء للضرر الأشد، وأن أعظم المفسدتين تدفع بارتكاب أخفهما، وإذا علمنا أن الموازنة هنا بين مفسدتين، الأولى: هي ترك الجمع والجماعات وتعطيل المساجد لفترة محددة من الزمن، والمفسدة الثانية: ما ينتج عن تفشي المرض من أضرار ووفيات وفشل في النظام الصحي للدولة وما يتبع ذلك من اختلال في أنظمة الأمن والأنظمة الاجتماعية.
اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن مفسدة ترك الجمع والجماعات أخف لأنها تترك يكون لها بدل هو الصلاة في البيوت، أما فوت الأنفس واختلال النظام، فمفسدة لا تستدرك فضلا عن كون حف الأنفس مقدم على حفظ صلوات الجمعة والجماعات؛ لأن حفظ النفس ضروري، والجمعة والجماعات تكميلي.
ولقد شغب البعض بذكر آراء وأقوال تشكك في صحة هذا الرأي وعامة ما اطلعنا عليه من هذه الأقوال التي تحرم إغلاق المساجد وتنتقد الدعوة للصلاة في البيوت قد وقعت في أخطاء منهجية تجعل هذا القول غير معتبر، وهذه الأخطاء المنهجية هي:
- أنها بنيت على النظر الفردي ولم تراع النظر العام الذي هو المناط الحقيقي للحكم.
- أنها بنيت على استصحاب حال، لو صح لم يكن دليلا لتحريم أمر الإمام بمنع الصلوات حال الوباء ، كاستشهادهم بطاعون عمواس، وأنه لم يؤمر فيه بترك الجماعات، إذ قصارى ما يدل عليه أن حاكم ذلك الزمان لم يأمر بترك الجماعات على أن روايات التاريخ تذكر أن الموت في طاعون عمواس كان بين 25 ألفا أو 30 ألفا، وهي نتيجة رهيبة لا يقول باحتمالها عاقل.
- أنها بنيت على العواطف المحضة، من استثارة أحزان الناس على تعطيل المساجد وخلوها من المرتادين، ولا شك أن هذا ألم يعصر قلوب المسلمين جميعا، لكنه لا يصلح لبناء حكم عليه، وإن الألم الذي ينتج من تكدس أعداد المرضى وموتهم لو تفشى المرض – لا سمح الله- دون أن يتمكن أهل الطب من تقديم الخدمة ألم أكبر، إذ فيه فناء أنفس معصومة، على أن الصلاة والعبادة والدعاء لم تترك، ولا ينبغي أن تترك بإغلاق المساجد وتعطيل الجماعات والجمع.
- ورابع الأخطاء المنهجية أنهم خلطوا بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله، والذي قرره علماء الإسلام أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل إن ترك الأسباب هو المنافي لحقيقة التوكل، فقد جاء في الحديث النبوي الشريف:” اعقلها وتوكل”، فكل ما ذكر من أن الصلاة سبب لرفع البلاء، وأن الاجتماع للذكر والدعاء هو العلاج، وأن على الناس أن يوقنوا بأن الأمر بيد الله لا بترك صلاة الجماعة والجمعة، كل هذه الأقوال خلط على الناس في تصوراتهم وتلبيس عليهم في دينهم، لأن ترك الجمع والجماعات أخذ بالأسباب وهو لا يمنع من الدعاء والتوبة والتضرع إلى الله.
- قول بعضهم: لماذا تمنع الصلوات ولا تمنع الأعمال والاجتماعات الأخرى؟ فيقال لهم: إن الاجتماعات تمنع بناء على أمرين:
الأول: كونها بيئة خصبة لانتشار العدوى بشكل أكبر.
والثاني: كونها تسهم في حفظ سير المجتمع وأداء خدماته الضرورية، ونحن نرى أن الكثير من التجمعات البشرية في البلدان قد منعت.
والذي استقر عليه رأي من وقع على هذا البيان، بعد الرجوع إلى أهل الاختصاص في تصور هذا الوباء وخطره، أن الجهة المعنية بتحديد الضرر المخوف في حالة انتشار هذا المرض هي اللجنة المكلفة من الدولة بمتابعة تطورات هذا المرض ولهم الكلمة الفصل في ذلك، فإن قرروا أن الجمع والجماعات تؤدي إلى انتشار المرض؛ وجب منعها وحرم على الناس مخالفة هذا المنع، ويحرم أيضا حينئذ نشر ما يبلبل الناس حول هذا الحكم.
ونسأل الله – جلت قدرته- أن يحفظ قطر وأهلها ويجمع كلمتهم على ماينفعهم، وأن يحفظ العالم الإسلامي والبشريعة جمعاء من هذا الوباء.
الموقعون من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، بتاريخ 21 رجب 1441هـ=16 مارس 2020م.