فتوى الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أ.د علي محيي الدين القره داغي، حول الأحكام المتعلقة بانتشار المرض الوبائي فايروس كورونا المستجد (كوفيد-19)
وجاء في نصها:
كثرت التساؤلات حول حكم التعامل مع الفيروس الجديد (فايروس كورونا) الذي كاد أن يصبح وباءً يهدد حياة الكثيرين من خلال انتشاره السريع.
وما حكم إغلاق الجوامع وترك الجمعة والجماعة خوفاً من انتشاره؟
وما الأدعية، والأمور المطلوبة من المسلم في هذه الأوبئة والأمراض؟
- الجواب على ذلك:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وبعد،
أولاً: إن هذه الأوبئة والفايروسات من قدر الله تعالى
ومن الأدلة القاطعة المشاهدة على قدرة الله تعالى في هلاك من يريد هلاكه بأضعف جنوده (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، كما أنها من سنن الله تعالى يصيب بها من يشاء من المسلمين ومن غيرهم، ويؤدب بها من يشاء، ولكن المؤمن المصاب بها والصابر عليها له أجر الشهيد، فقد روى البخاري في صحيحه، أن عائشة ـــ رضي الله عنها ــ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها…أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين “فليس من عبد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد”.
ثانياً: إن الإسلام يوجب علينا أمرين:
1-التوكل على الله تعالى حق التوكل، وأن كل شيء بقدره، وتحت قدرته وأنه (لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا).
2-والأمر الثاني هو الأخذ بالأسباب، ومنها الوقاية والعلاج والحجر الصحي، وكل ما تفرضه الجهات الصحية المختصة، وهذا يفسر موقف الفاروق عمر رضي الله عنه، حين امتنع عن دخول الشام، بعد أن علم أن الوباء قد وقع فيها، وقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه : أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فقال: “نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ”.
وهذا هو حقيقة فقه الميزان، حيث تقوم الكفة (الجناح الأيمن) على الإيمان القوي بالله تعالى، وتقوم الكفة الثانية (الجناح الأيسر) على الأخذ بالأسباب المشروعة كلها، لأن الله تعالى هو الذي أمر بها.
ثالثاً: إن مرض الطاعون معروف،
وهو من الوباء الذي هو أعم منه، حيث ذكر اللغويون، وعلى رأسهم الخليل بن أحمد: الوباء الطاعون، وهو –أي الوباء- كل مرض عام، فيقال: أصاب أهل الكورة وباءٌ شديد…وأرض وَبئةٌ إذا كثر مرضها.
رابعاً: لا شك أن هذه الأوبئة عذاب،
بل سماه الله تعالى رجزاً من السماء، حيث تكرر في القرآن لفظ الرجز عشر مرات، منها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ)، أي أن هؤلاء الظلمة المعاندين يسعون بكل جهودهم لإبطال آيات الله تعالى، ويزعمون أنّهم قادرون على أن يعجزوها، وتكون لهم الغلبة عليها، ويريدون أن يسبقوا قدرة الله، فهؤلاء لهم عذاب من رجز أليم، والرجز قد فسره البعض بالأوبئة العامة المؤلمة في الدنيا والآخرة.
ولكن من سنن الله تعالى أن العذاب إذا نزل قد يعم غير الظلمة فقال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً)، كما أن من سنن الله تعالى أن الأوبئة إذا انتشرت لا تفرق بين ظالم وكافر ومؤمن، بل على المؤمنين أن يأخذوا بجميع الأسباب المطلوبة شرعاً وطباً وعقلاً.
خامساً: أوجب الإسلام عند ظهور الوباء (الفيروسات القاتلة) مجموعة من التعليمات المهمة:
1- الحجر الصحي: أي عدم جواز الخروج من البلد الذي وقع فيه الطاعون أو الوباء، وعدم جواز الدخول إليها، فقد جاء في صحيح مسلم:” قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ ابْتَلَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَاسًا مِنْ عِبَادِهِ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَفِرُّوا مِنْهُ”.
وقد ذكر علماؤنا السابقون الحكمة من هذا الحجر الصحي، وهي:
2- المنع من الخروج حتى لا ينتشر المرض، فيكون سبباً في إيذاء الأخرين، فيكون آثماً؛ لأنه ألحق الضرر بالآخرين، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”. فلا يجوز أن يتسبب الإنسان في الإِضرار بالآخر، لا في دينه، ولا في بدنه، ولا في عقله، وفي ماله، ولا في أي شيء؛ سواء كان الإضرار مادياً أم معنوياً، بل إن العلماء السابقين أكدوا على حرمة من يتسبب في انتشار العدوى.
3- المنع من دخول المنطقة الموبوءة؛ لحرمة الإلقاء بالنفس في التهلكة، أو فيما يسبب التهلكة؛ لأن الحفاظ على البدن والصحة والعقل من أهم مقاصد الشريعة الضرورية.
4- عدم استنشاق الهواء الذي يحمل ذلك الوباء (الفيروس)
5– عدم مجاورة المرضى خشية العدوى، إلا للعلاج مع الأخذ بجميع وسائل الحماية الطبية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الْأَسَدِ”، ولا تناقض مع الحديث الصحيح “لَا عَدْوَى”؛ لأن المقصود به هو أنه: لا عدوى على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمور تعدي بذاتها وطبعها، فهذا من ميزان الاعتقاد والإيمان بالله تعالى وعدم الإشراك، وأما الفرار من الأمراض المعدية فهو من ميزان الأسباب التي جعلها الله مؤثرة بقدر الله تعالى، ويؤكد هذا المعنى الحديث الصحيح الأخر بلفظ ” لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ”.
6– ضرورة الحيطة والحذر وعدم التعرض لأسباب التلف مع تفويض الأمر لله تعالى والتوكل الحق عليه، دون قلق ولا اضطراب، وقد ذكر ابن الأثير في الكامل في التاريخ أنه “حينما أصاب المسلمين طاعون عمواس خرج بهم عمرو بن العاص إلى الجبال، وقسمهم إلى مجموعات، ومنع اختلاطها ببعض، وظلت المجموعات في الجبال فترة من الزمن حتى استشهد المصابون جميعاً، وعاد بالباقي إلى المدن” وهذا هو الحجر الصحي المتاح في ذلك.
7- ومن أهم تعليمات الإسلام في هذا المجال وجوب العلاج على الشخص نفسه، وعلى المجتمع والدولة أن تسعى بكل إمكانياتها لعلاج الأمراض، وبخاصة الأمراض المعدية، وأن الشخص الذي لا يعالج نفسه منها آثم حسب الأدلة الكثيرة الواضحة ذكرناها في كتابنا “فقه القضايا الطبية المعاصرة “.
8– وجوب الإفصاح، حيث يجب على كل من أحس بأنه قد أصابه هذا الوباء، أو أنه كان في بيئة موبوءة وخرج للضرورة.. أن يخبر الجهات المسؤولة بما هو فيه، وإذا أخفى ذلك فقد ارتكب جريمتين؛ جريمة الكذب والإخفاء والتدليس، وجريمة التسبب في إضرار الأخرين وانتشار الأوبئة، وكل من يصيبه هذا المرض بسببه يتحمل قسطه من الإثم والعدوان، قال صلى الله عليه وسلم :” الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ”، فالمسلم الحقيقي يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه.
سادساً: الخوف من العدوى ومن هذه الأمراض:
إن الإسلام دين الفطرة، ولذلك لا يمنع من الخوف من هذه الأمراض ونحوها ما دام صاحبها يؤمن بأن الله تعالى هو الخالق وحده، وقد جعل لكل شيء سبباً، بل الخوف واجب، قال الحافظ المناوي: “ومن ذلك الخوف من المجذوم على أجسامنا من الأمراض والأسقام”، وفي الحديث: “فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الْأَسَدِ”، فصون النفوس والأجسام والمنافع والأعضاء والأموال والأعراض عن الأسباب المفسدة واجب.
ومما يدل على مشروعية الخوف بل وجوبه ما رواه ابن ماجة في سننه، أَنَّهُ كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” ارْجِعْ فَقَدْ بَايَعْنَاكَ”.
ويدل كذلك على وجوب الحذر والحيطة في حماية الأطعمة والأشربة من كل ما يفسدها الأحاديث الكثيرة الدالة على تغطية الأواني والأطعمة المكشوفة، وحفظها، ووجوب التداوي، وغسل الأيادي والأفواه، وحرمة التبول والتغوط في الطرق وتحت الأشجار، وفي الأماكن التي يصل أثارها إلى الأخرين.
فهذا الدين هو دين نظافة الداخل والخارج (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)، وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)،وهنا تأتي عناية الإسلام بالوضوء والغسل ونظافة الأبنية والأفنية وغير ذلك.
ومن ذلك ما رواه مسلم، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنْ الطَّرِيقِ وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ”، وغير ذلك.
سابعاً: ما يجوز تركه بسبب هذا الوباء:
لا شك أن الله تعالى جعل من أهم مقاصد شريعته الحفاظ على الدين، والنفس وغيرهما وتنميتهما لذلك فالأصل أن تمضي القضيتان معاً دون تعارض، بل في انسجام، فعلينا أن نؤدي واجبات ديننا، كما علينا أن نحافظ على مقتضيات الحفاظ على أبداننا وعقولنا، وغيرها، ولكن قد تقع مشكلة في الجمع، وهنا يأتي لطف الله تعالى ورحمته بعباده، وعنايته لضعفهم فيتسامح في ترك بعض العبادات، أو يتجاوز عما هو الفرض والواجب، ومن هذا الباب رخصة النطق بالكفر عند الإكراه، قال تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ).
وقد استُنبط من هذه الآية الكريمة، ومن غيرها، ومن السيرة النبوية المشرفة أن الخوف يكون عذراً مقبولاً لترك بعض الفرائض والواجبات إذا توفرت شروطه، ومما يتعلق بموضوعنا هو ما يأتي:
1- ترك الجمعة والجماعة لأجل الخوف من انتشار الوباء بين المصلين:
فقد ذكر فقهاؤنا أن الخوف من الأعذار المقبولة لترك الجمعة والجماعات، وهو ثلاثة أقسام:
1– أن يخاف المرء هلاك نفسه، أو إتلاف بعض البدن، أو الاعتداء عليه، أو ضربه ضرباً مؤذياً، أو خطفه وأسره، أو تعرضه لهجوم السباع عليه، ففي هذه الحالة يجوز له ترك الذهاب إلى الجامع الذي يتعرض فيه لهذه الحالات.
2- أن يخاف المرء ضياع ماله إذا ذهب إلى أداء صلاة الجمعة والجماعات، بل إن الفقهاء قالوا بجواز ترك الجمعة إذا خاف من أن تأكل السباع دابته، أو نحو ذلك.
3– أن يخاف على أهله وولده، كأن يكون في بيته طفل لا يجد من يرعاه وهو يخاف من تعرضه للأذى، أو يخشى أنه لو صلّى الجمعة يموت قريبه في غَيبَتِهِ دون إسعافه، أو تلقينه الشهادة أو نحو ذلك.
وقد توفرت الأدلة المعتبرة على أن وجوب الجمعة مشروط بما إذا لم يكن على الإنسان ضرر في نفسه، أو ماله، أو أهله، منها قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
قال ابن قدامة: “ويعذر في ترك الجماعة والجمعة الخائف لقول النبي صلى الله عليه وسلم : “مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ”، والخوف ثلاثة أنواع “خوف على النفس، خوف على المال، خوف على الأهل”.
وبناء على ما سبق فيجوز ترك الجمعة والجماعة عند انتشار الأوبئة مثل (مرض كورونا أو كوفيد 19)، لأنها مخيفة، ولكن ذلك مشروط بأن يكون الخوف محققاً، وليس مجرد وهم؛ لأن ترك الواجب لا يجوز إلا عند غلبة الظن، أو طلب أولي الأمر وأهل الاختصاص.
أما إقفال الجوامع فلا يجوز في نظري إلا إذا انتشر الوباء، وصدر أمر من أولي الأمر بذلك، والمعيار في ذلك هو صدور أوامر حكومية أو صحية بغلق المدارس والجامعات، وعندئذ يجوز غلق المساجد في المدن والمناطق التي يخاف من انتشار الوباء فيها ظن وصدر أمر بغلقها فيها، أما بقية المناطق التي لم تغلق فيها المدارس والجامعات فيجب أن تبقى المساجد والجوامع مفتوحة.
- منع العمرة والحج بسبب الوباء:
لم يسجل التاريخ -حسب علمي- أن فريضة الحج قد تعطلت كلياً بسبب الطاعون ونحوه، لكن تعطلت بسبب القرامطة لعدة سنوات، لأنهم منعوها إبان حكمهم البغيض كما تعطلت في بعض البلدان بسبب الطاعون والوباء في بعض الأحيان، بل إن ابن كثير ذكر في (البداية والنهاية) من أحداث عام 357ه أن داء الماشري (الطاعون) قد انتشر في مكة، فمات به خلق كثير، وفيها ماتت جمال الحجيج في الطريق من العطش ولم يصل منهم إلى مكة إلا القليل بل مات أكثر من وصل منهم بعد الحج.
وفي عام 2009م لما انتشر انفلونزا الخنازير (H1 – N1) ظهرت بعض الفتاوى بمنع الحج، ولكن المملكة العربية السعودية درست الموضوع فقهياً وطبياً، وتوصلت إلى أن الخطورة ليست مؤكدة أو محققة لذلك لم تمنعه، ولكن شددت في الإجراءات الفنية و العلمية، وطلبت عدم مجيء كبار السن والمرضى ونحوهم.
وفي هذا العام 1441ه (فبراير 2020م) صدرت أوامر بمنع العمرة إلى أجل غير مسمى بسبب خطر وباء كورونا وانتشاره كإجراء وقائي.
محاولة منع الحج عام 1316ه بسبب انتشار الكوليرا من قبل المخابرات الفرنسية:
كانت فترة الحج خطيرة بالنسبة للمستعمرين المحتلين، لأن عامة الحجيج يلتقون بالعلماء والمفكرين ودعاة الجامعة الإسلامية، لذلك حاولت المخابرات الفرنسية منع المسلمين من سكان المستعمرات التابعة لها من الذهاب إلى الحج بدعوى الخوف من الإصابة بمرض الكوليرا ، وقد ذكر السيد محمد رشيد رضا موقف المملكة المصرية من ذلك قائلاً: “اجتمع مجلس النظار (أي مجلس الوزراء في مصر) اجتماعاً خصوصياً للمذاكرة في أمر منع الحج الذي يراه مجلس الصحة البشرية ضرورياً لمنع انتقال الوباء من بلاد الحجاز إلى مصر، ولما كان المنع من الحج منعاً من ركن ديني أساسي لم يكن للنظار (أي الوزراء) أن يبرموا أمراً إلا بعد الاستفتاء من العلماء، ولهذا طلب عطوفة رئيس مجلس النظار لحضور الاجتماع صاحب السماحة قاضي مصر، وأصحاب الفضيلة شيخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية، والشيخ عبد الرحمن النواوي مفتي الحقانية، والشيخ عبد القادر الرافعي رئيس المجلس العلمي سابقاً، وتذاكروا مع النظار، وبعد أن انفضوا من المجلس اجتمعوا وأجمعوا على كتابة هذه الفتوى وإرسالها إلى مجلس النظار، وهي بحروفها: “الحمد لله وحده.. لم يذكر أحد من الأئمة من شرائط وجوب أداء الحج عدم وجود المرض العام في البلاد الحجازية، فوجود شيء منها فيها لا يمنع وجوب أدائه على المستطيع.
وعلى ذلك لا يجوز المنع لمن أراد الخروج للحج مع وجود هذا المرض متى كان مستطيعًا.
وأما النهي عن الإقدام على الأرض الموبوءة الواردة في الحديث، فمحمول على ما إذا لم يعارضه أقوى، كأداء الفريضة، كما يستفاد ذلك من كلام علمائنا.
حرر في 2 ذي القعدة سنة 1316 هـ.
هذا والله أعلم،
والحمد لله رب العالمين
ولكن الراجح هو أنه إذا انتشر الوباء قطعاً أو تحقق غلبة الظن (من خلال الخبراء المختصين) أن الحجاج، أو بعضهم يصيبهم هذا الوباء بسبب الازدحام، فيجوز منع العمرة أو الحج مؤقتاً بمقدار ما تدرأ به المفسدة، وقد اتفق الفقهاء على جواز ترك الحج عند خوف الطريق، بل إن الاستطاعة لن تتحقق إلا مع الأمن والأمان، ولذلك فإن الأمراض الوبائية تعد من الأعذار المبيحة لترك الحج والعمرة بشرط أن يكون الخوف قائماً على غلبة الظن بوجود المرض، أو انتشاره بسبب الحج والعمرة، وأن ذلك يقدره أهل الاختصاص من الأطباء، ويصدر بشأنه قرار من المملكة العربية السعودية بالنسبة للمنع، وفي حالة إبقاء الحج أو العمرة مفتوحاً فحينئذ يعود التقدير إلى الدولة التي ظهر فيها الوباء بمنع حجاجها أو معتمريها من أداء الحج خوفاً من نقل الوباء إلى جموع الحجيج والمعتمرين بناء على تقدير جهات الاختصاص في كل بلد.
ثامناً: الأدعية والتضرع إلى الله تعالى:
ومع الأخذ بالعلاج المطلوب طبياً، يستحب أن يكثر المسلم عند وجود الأوبئة الإكثار من الأدعية الآتية:
(قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَاۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
(بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ثلاث مرات أو أكثر، ورد في الحديث أنه من قال الدعاء السابق “ثلاث مرات لم تُصِبهُ فُجأَةُ بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم تُصِبهُ فُجأَةُ بلاء حتى يمسي”.
(أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق) ورد في الحديث الصحيح أنك إذا قلته “لم تضرّك” أي لم تضرك شرور الخلق.
قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات، والمعوذتين ثلاث مرات، عند الصباح وعند المساء، وردت باستحبابها أحاديث ثابتة.
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ استُرْ عَوْرَاتي، وآمِنْ رَوْعَاتي، اللَّهمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَينِ يَدَيَّ، ومِنْ خَلْفي، وَعن يَميني، وعن شِمالي، ومِن فَوْقِي، وأعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحتي)
(لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) حيث ورد فيه “فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له “
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ).
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الأَسْقَامِ).
الإكثار من قراءة القرآن الكريم، والذكر والتسبيح والصلوات على رسوله الكريم وآله وصحبه.
هذا والله أعلم
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د علي محي الدين القره داغي
غرة رجب الخير 1441هـ