د/ خالد حنفي – رئيس لجنة الفتوى بالمانيا – الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
فقد تناقل الناس على مواقع التواصل الاجتماعي فتاوى منسوبة لبعض العلماء والمفتين تدعو المسلمين إلى إقامة صلاة الجمعة في بيوتهم مع أسرهم وعائلاتهم، بحجة أن العدد الذي تصح به صلاة الجماعة تصح به صلاة الجمعة، وأن إقامتها في البيوت خيرٌ من عدم إقامتها خاصة مع توقع طول أمد إيقافها.
قلتُ: مع التقدير لأصحاب الفضيلة الذين أصدروا تلك الفتاوى، والبواعث الحسنة التي دفعتهم إلى تلك الأقوال، فالذي أراه والله أعلم عدم صحة صلاة الجمعة في البيوت وعدم إجزائها أو سقوط الفرض بها، وأن ما يجب العمل به هو الالتزام بالبقاء في البيوت وأداء الصلوات جماعة فيها، وصلاة الظهر بدل الجمعة مهما طال الوقت؛ حفاظاً على الأنفس والأرواح، وعملاً بالهدي النبوي:” صلوا في بيوتكم”، والتزاماً بقرار السلطات الرسمية، والدليل على عدم صحة الصلاة في البيوت ما يلي:
- أن صلاة الجمعة فُرضت بمكة قبل الهجرة ولم يَثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّاها ولو مرة في البيوت بمكة، ومع ذلك أذِن لأسعد بن زرارة، ومصعب بن عمير بإقامتها في المدينة، والذي مَنعه صلى الله عليه وسلم من أدائها في مكة: عدم توفر كثير من شرائطها، كفقد العدد، أو لأن شعارها الإظهار، وهم كانوا في مرحلة استضعاف. فالحاصل أن عدم إقامة الجمعة عند عدم توفر شروطها هو الهدي النبوي، كما هو الحال اليوم مع فيروس كورونا.
- استدل من قال من المعاصرين بصحة إقامة الجمعة في البيوت بنصوص من المذهب الحنفي باعتبارهم من أكثر الفقهاء تقليلاً للعدد الذي تنعقد به الجمعة، وفاتهم النظر إلى شروط الحنفية الأخرى والتي منها: أنهم شرطوا لصحة الجمعة ” أَنْ تُؤَدَّى بِإِذْنٍ عَامٍّ يَسْتَلْزِمُ الاِشْتِهَارَ، وَهُوَ يَحْصُل بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَان بَارِزٍ مَعْلُومٍ لِمُخْتَلَفِ فِئَاتِ النَّاسِ، مَعَ فَتْحِ الأَبْوَابِ لِلْقَادِمِينَ إِلَيْهِ، وَالْحِكْمَةُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا شَرْطًا؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ النِّدَاءَ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، وَالنِّدَاءُ لِلاِشْتِهَارِ؛ وَلِذَا يُسَمَّى جُمُعَةً، لاِجْتِمَاعِ الْجَمَاعَاتِ فِيهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَاتُ كُلُّهَا مَأْذُونِينَ بِالْحُضُورِ إِذْنًا عَامًّا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الاِسْمِ” قلتُ: فهل يتحقق هذا الشرط بالصلاة في البيوت؟!
- اشترط الجمهور لصحة صلاة الجمعة عدمَ تعددها في البلدة الواحدة الكبيرة؛ لأِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا هِيَ الاِجْتِمَاعُ وَالتَّلاَقِي، وَيُنَافِيهِ التَّفَرُّقُ بِدُونِ حَاجَةٍ فِي عِدَّةِ مَسَاجِدَ، وَلأِنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلاَ تَابِعِيٍّ تَجْوِيزُ تَعَدُّدِهَا. وإنما جوّز المعاصرون تعدد الجمعة في البلد الواحد للحاجة، نظراً لكثرة الناس كثرةً لا يستوعبهم معها مسجد، فإذا كان الفقهاء قد منعوا تعدد الجُمَع بالعدد الكبير في المساجد مع الأئمة في البلد الواحد، فكيف نجوّزُ تعددها في البيوت اليوم بأعداد لا تُحصى؟
- القول بإقامة الجمعة في البيوت قول مُحدث يُخل بمقاصد صلاة الجمعة الكلية والجزئية، ويُخشى معه من استهانة الناس بالشعيرة والمداومة عليها في البيوت وترك المساجد بعد زوالة الغمة، خاصة وأن من أفتى بها استدعى نصوصا فقهية عامة لا تختص بكارثة أو وباء.
إن صلاة الجمعة بصورتها وشرائطها المعروفة من مفاخر الإسلام ومن نِعمه على المسلمين، وعليهم أن يتمسكوا بصورتها وقصدها وأن لا يستبدلوها بصور أخرى ما قصَدَها ولا عناها الفقهاء الأُوَل بحال، ونسأل الله تعالى أن يعجل بالفرج، وأن يعيدنا إلى مساجدنا فرحين بفرج الله وعافيته إنه سميع مجيب.
والله أعلم