الفتاوىفتاوى كورونا

فتوى خاصة بالدكتور: جدي عبد القادر، الأستاذ بكلية الشريعة والاقتصاد جامعة الأمير عبد القادر بالجزائر

هل تسقط صلاة الجمعة و الجماعة بمنع الحاكم بسبب كورونا عند المالكية؟
‪تنبيه: نقتصر في هذه الفتوى على المذهب المالكي جريا على عمل فقهائنا النوازليين من التخريج عليه لأنه المذهب المعمول به في الجزائر.
‪النص:
‪ صلاة الجمعة فرض بنص الكتاب و السنة، قال تعالى: يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله و ذروا البيع)، و في الصحيح عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)، و في حديث طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه و سلم: الجمعة حق على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة، عبد مملوك، أو امرأة ـ أو صبي أو مريض).
‪و لقد حرص فقهاء الملكية على تحديد شروط من تجب عليه و ما يشترط لصحتها و مندوباتها و عمل الامام فيها، و مالا يجوز فيها و الأعذار المبيحة للتخلف عنها.
‪و بعد تقرير المسائل السابقة بحث فقهاؤنا مسألة سقوط صلاة الجمعة بسبب الأعذار:

و صورة المسألة: أن صلاة الجمعة تجب صلاتها بركعتين قبلهما خطبتان بدل الظهر جماعة لا تقل عن اثني عشر رجلا في المسجد وراء إمام على كل مسلم ذكر مقيم غير مسافر، و أن التخلف عنها له – صورتان:

  • الاولى: تخلف من غير عذر:

ممن تركها تكاسلا أو بسبب سوء الأحوال الجوية المحتملة أو بسبب تساقط الأمطار الخفيفة و المسجد قريب أو بسبب انشغاله بتنظيم عرس… الخ، وهذا التخلف محرم لانه فوت فرضا و استدلوا عليه بحديث الموطأ: من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر ولا علة طبع الله على قلبه، و بحديث مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم).

  • الثانية: تخلف لعذر:

وهذه الصورة جعلها المالكية تسقط وجوب الجمعة عن المسلم ويصح له أن يصلي الظهر في بيته بعد فراغ الناس من صلاة الجمعة، وهذه الأعذار حرص فقهاء المالكية على تحريرها وعدها حتى أوصلها بعضهم إلى عشرين عذرًا. 
‪ولقد قسم فقهاؤنا هذه الأعذار الى ما له تعلق بالنفس كالمرض وماله تعلق بالأهل كالتمريض وماله تعلق بالمال كالخوف من لص ومالها تعلق بالدين كمن خاف من السجن بسبب دين مالي
‪وجعل ابن رشد الجد المرض علة و عذرًا ذاتيًا، و الجذمى يباح لهم عدم صلاة الجمعة لما على الناس من ضرر في مخالطتهم في المسجد الجامع.
‪و الذي ينظر في صنيع الفقهاء يجد أنهم رتبوا الأعذار لعلل وأسباب ظهرت لهم من النصوص أو استنبطوها تبعًا لمسالك صحيحة في النظر الأصولي و نشير الى بعضها مما له تعلق بموضوعنا:

١ المشقة:
أي أن الجمعة و الجماعة تسقط اذا حصل بسبب أدائها مشقة و حرج و عليه نص الفقهاء على المطر الشديد و شدة الوحل :وهو مأخوذ مما جاء عن ابن عباس : أنه قال لمؤذنه في يوم مطير : إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل : حي على الصلاة قل: صلوا في بيوتكم فكأن الناس استنكروا قال: فعله من هو خير مني إن الجمعة عزمة و إني كرهت أن أحرجكم فتمشون في الطين و الدحض .ويشبهه الحر الشديد و الثلج يسد الطرقات


٢ المرض:
و ذكر ابن المنذر الإجماع على سقوط الجمعة بالمرض، فالإنسان إذا كان مريضا فله أن يترخص بصلاة الظهر بدل الجمعة، والمرض قد يكون ذاتيا في الشخص فلا يشهد الجمعة بسببه وقد يكون في أهل الشخص كالوالدين و الابن و الزوجة فيشتغل بهما أو يحضر عملية جراحية لأحدهم فقد رخص له الشرع عزم الصلا جماعة و للجعلي عبارة جميلة في شرحه على أسهل المسالك عند قوله(وتمريض قريب مشرف): ولو كان عندهم من يقوم بشأنهم لأن الذي يشغلهم إذ ذاك ما دهمه وعظم عليه من أمرهم. فانظر كيف جعل الشغل بالمريض وما يلحق البال من شغل والقلب من هم قد لا يتأتى معه الخشوع في الصلاة و الاطمئنان في أداء الأركان حتى تعذر معه مقصد الاجتماع في الصلاة سببًا للترخيص عن شهود صلاة الجمعة.

٣ ضرر العدوى:
كالمصاب بالجذام و هو مرض جلدي معد، قال ابن رشد: (كالجذمى لما على الناس من الضرر في مخالطتهم في المسجد الجامع)و ذكره الشيخ خليل و عطف عليه المرض فقال: أو جذام و مرض، مع أن الجذام مرض أيضا ،لكنه قد لا يشق على صاحبه معه الحضور للمسجد و لكنه ممنوع حتى لا تنتشر العدوى بسببه بين الناس، و لذلك تم التعامل مع هذا المريض معاملة خاصة تشبه الحجر الصحي في زماننا ، فقد ثبت في الصحيح عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم “إنا قد بايعناك فارجع”، فقد أبعده حتى لا يختلط بالناس،وهذا موافق للحديث الآخر في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال “وفر من المجذوم كما تفر من الأسد”. وهذان الحديثان ظاهرا الدلالة في البعد عن المصاب بالمرضى المعدي،بل و في مشروعية عزله.و دليله ما جاء إن عمر بن الخطاب مر بامرأة مجذومة و هي تطوف بالبيت فقال لها: يا أمة الله تؤذي الناس لو جلست في بيتك فجلست فمر بها رجل بعد ذلك فقال لها : إن الذي كان قد نهاك قد مات فأخرجي فقالت: ما كنت لأطيعه و أعصيه ميتا.،و حديث ابن ماجه: لا يورد الممرض على المصح.

٤ أذية الرائحة الكريهة:

فيحرم حضور الجمعة على من به رائحة كريهة تؤذي الآخرين كرائحة الثوم و البصل و الدخان ، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم منع من به رائحة الثوم من حضور الجماعة و أمر بإخراجه الى البقيع ، و هذا يدل على أنه أخرج من المسجد وساحته .
‪فتبين من هذه النصوص عدة معان راعاها التصرف النبوي و الراشدي لإسقاط فرضية الجمعة و هي
‪- إن المرض إذا كان حاصلًا بنفسه في المكلف بالجمعة و أقعده عن الجمعة أو شق عليه الحضور.
‪-إن المرض إذا كان سيحصل بالعدوى و الانتشار فإن صلاة حامل العدوى ممنوعة للضرر الحاصل غالبا.

‪-إن الهم الشديد و شغل العقل بسبب مريض قريب كاف وحده لسقوط فرضية الجمعة لعدم حصول مقاصد الجماعة و الجمعة .
‪-إن الأذية الحاصلة من الرائحة الكريهة فقط التي يحملها الثوم كافية لإسقاط الجمعة عن حامل الرائحة ، و الأذية الحاصلة هنا مستوى شدتها أقل في الكم من مستوى مشقة المطر الشديد أو المرض المعدي.
والسؤال الآن: هل مجرد الخوف من حصول العدوى يقوم سببًا لسقوط الجمعة والحال أن نصوص السنة منعت من قام به سبب العدوى أي كان مريضا فيمنع حتى لا يضر بغيره بنقل العدوى ، و منعت المريض الذي قام في ذاته عارض المرض لا الصحيح المعافى الذي قام عارض الصحة ببدنه و توافرت فيه شروط الوجوب لكنه يظن حصول الضرر إن هو أدى صلاة الجماعة و الجمعة.

و الجواب: إثبات أن مبنى هذا الحكم عند المالكية و هو جواز منع الحاكم صلاة الجمعة يتمشى على أصولهم و هي أربعة: اعتماد الظن، والاحتياط ، ومقصد حفظ النفس، وقاعدة تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة.

‪تم بناء الأحكام الفقهية عامة على الظن و هو رجحان الحصول ، فإذا ترجح حصول الأمر و غلبت جهة حصوله جهة عدم حصوله ترتب الحكم الفقهي ، وفي صلاة الجمعة تم إثبات الترخيص في حالات تحمل هذا المعنى :
‪جواز تخلف المدين المعسر على صلاة الجمعة إن خاف أن يحبس في الدين الذي هو عليه ، وذلك رغم أنه معسر لا يجوز حبسه، فخوفه بسبب ظنه فقط و لذا لم يعده سحنون عذرا.
الخوف على مال أو حبس أو ضرب: و قد نص خليل على هذه الحالات ومقتضاها أن مجرد ظن خوف من عنده مال أن يأخذه منه ظالم أو غاصب أو قاطع طريق، وقد فسر ابن رشد حديث ابن عباس: من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر ،قالوا و ما العذر؟ قال: خوف أو مرض… قال: إن خشي أن يتعدى عليه حاكم فيسجنه في غير محل السجن أو يضربه فله أن يصلي في بيته ظهرًا أربعًا. فمثل هذه الحالات بنيت على ظن حصول التعدي أو السرقة أو تعرض الغرماء مع أن صاحبها صحيح مقيم قامت به كل شروطا لجمعة، فينتج لنا أن حصول الظن بالضرر على النفس ممن حصل له ظن الإصابة بعدوى فيروس كورونا بضوابطه التي سنذكرها يتأتى الترخص بترك الجمعة على رأي السادة المالكية لتمام مشابهة هذه الصورة لبقية الصور لا قياسًا و إنما دخولا في عموم حديث: فلا يقرب مساجدنا يؤذينا بريح الثوم ،فهو عام في جميع الإيذاءات عرفا أو لغة ، و عليه كل خوف من حصول مرض أو ضرر أو أذية فهو مبنى صحيح لحكم الترخص لترك الجمعة ، و إنما يشترط الفقهاء أن يكون هذا الظن معتبرا و بعيدا عن مجرد التخمين والتخرص ، فمثلا: ظن المشقة عند المطر الشديد إنما اعتبرها الفقهاء لتجمع عدة عناصر مادية أدت الى سداد الظن و اعتباره و هي:
-‪سقوط المطر
-‪شدة التساقط
-روية السيول في الطرقات
‪وقوع المسجد على مسافة تجعل الوصول شاقًا ، أما لو غابت هذه العناصر فإن الترخص لا يتأتى ، و في حالة الخوف من اللص فإن العنصر المادي المطلوب هو وجود مبلغ مالي ذي بال و قيمة يخشى تركه في مكان أو يخشى حمله معه فينتبه له الناس فيكون خوفه مبررًا ومعتبرا في الترخص.
و عليه فإن الترخص بعدم صلاة الجمعة بسبب الخوف من فيروس كورونا ينبغي لكي يعتبر أن تدعمه وقائع مادية تفرق بين الظن ومجرد التخمين و التخرص.

 و أرى أن هذه الوقائع يمكن أن تحصر في:
وجود الفيروس في البلد محل الجمعة حقيقة أو قريبا منها
أن تعلن ذلك جهة عامة كوزارة الصحة تملك المعلومات و لديها المعطيات الدقيقة، فهذه الجهة العامة هي التي إذا أعلنت أن التجمعات العادية والعبادية أضحت خطرًا ينشأ عنه ضرر الإصابة بفيروس كورونا فقد تأتى الظن الصحيح الذي يناط به الحكم ويجري عليه فقهاؤنا حكم العموم في حديث: “فلا يقرب مساجدنا يؤذينا.”

أيضًا فإن كثيرا من فروع المالكية مبنية على الاحتياط وسد الذريعة ، و لعل تصوير الاحتياط بأنه: الاحتراز من الوقوع في منهي، يتأتى منها الحكم المقصود، إذ الاحتراز مبني على التوقي و سد الذريعة على كل ما يؤذي النفس ظنا، قال الشاطبي: “والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، و التحرر مما يمكن أن يكون طريقا إلى مفسدة”، و عليه فإذا كانت الجمعة أضحت بفضل الخبرة الطبية سببًا لانتشار عدوى كورونا و اتساع رقعة المرض و تعين الترخص بتركها سبيلًا للتحكم فيه و تقليل بلائه و دفع ضرره فلا شك أن ترك الجمع و الجماعات هو الشرع إلى أن تنجلي الغمة عن أمة الإسلام.
‪- و يتخرج الترخص أخيرا على مقصد حفظ النفس، فإن عناية الإسلام بحفظ النفوس كلية شرعية تستعلي عند الترجيح على كثير من الفروع المسطورة، و رعاية هذا المقصد يسترشد بها في تصحيح الترخص وتقوية مستند الظن مناط الحكم، ومعلوم أن الشرع الذي أباح التلفظ بكلمة الكفر لحفظ النفس من ضرر القتل لا يسكت عن طلب ترك صلاة الجمعة لدفع العدوى و منع انتشار الأمراض المهلكة لآلاف النفوس الحية.
‪- قاعدة تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة: و قد نص عليها القرافي في قوله: لا يتصرف من ولي ولاية الخلافة فما دونها الى الوصية إلا بجلب مصلحة أو دفع مفسدة، و هذه المصلحة المحددة قد يعلمها الناس و يقفون على معطياتها و قد لا يدرون حقيقتها التفصيلية، و باتفاق الفقهاء أن موقفهم حيال الحاكم هو الطاعة لنصوص الطاعة الكثيرة و منها قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم). وعليه فإذا صدر قرار عام بمنع صلاة الجمعة في مدينة أو مساجد محددة في جهات من الجزائر لمعطيات تتعلق بالوباء فيجب الالتزام بهذه التعليمات لأن القاعدة الشرعية الثابتة بحديث: لا ضرر ولا ضرار، و دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة وهي صور من التصرف على الرعية لا تتأتى إلا بواسطة هذا القرار، والوسيلة تأخذ حكم الغاية..

والله أعلم

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى