الفتاوىفتاوى كورونا

نازلة تعطيل الجمعة والجماعات للصلاة عند المالكية وكيفية الأذان؟

الدكتور طاهري بلخير أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة بوهران، أستاذ سابق بجامعة الملك سعود بالمملكة العربية السعودية.

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
 الفقه الإسلامي هو دواء الأمة في أحكامها وعللها وطوارئها، ولا يتنكب لأي نازلة حاقة بالأمة، إلا وقال كلمته أما بنصوص شرعية أو بقواعد مرعية، استوعبت الزمان والمكان والأشخاص.
و ما من نازلة إلا ولله فيها حكم كما قال  الإمام الشافعي في الرسالة: علمها من علمها وجهلها من جهلها.
 وواجبنا اليوم أمام هذه المستجدات، ألا نبقى مكتوفي الأيادي بل ان نصدح بلسان الشرع، ونقول هذا حكم الشرع في حدود بذل الوسع في الاستنباط والتنزيل والله اعلم بالصواب.
وبناء عليه كثرت الأراجيف والأقوال حول تعطيل الجمعة والجماعات، لما أصاب العالم بهذا الهلع من فيروس يسمى (الكورونا). وكيف يمكن ان تنتقل عدواه بين المصلين.
فكانت خطابات الجهات الرسمية في بعض البلدان إلى الدعوة إلى تعطيل هذه الشعائر في صورتها الجماعية.
فأردنا أن نقول كلمتنا في هذه النازلة وبالله التوفيق
قال العلامة ابن جزئ الغرناطي – رحمه الله – في القوانين الفقهية: “والإمام الراتب وحده كالجماعة.”
 وقال العلامة خليل في التوضيح على جامع الأمهات:  “الإمام الراتب يقوم مقامَ الجماعة في أوجه: في تحصيل الفضل المرتب للجماعة” 

 وصلاة الجماعة عند المالكية سنة مؤكدة وليست واجبة والقاعدة الفقهية الشرعية تنص “ما جاز لعذر بطل بزواله.” 
 وعليه ففي كل الحالات يبقى الأذان قائما في وقته، و لا تعطل الصلاة في المسجد ولو بالإمام بمفرده.
 وأرى _ والله أعلم بالصواب _أن حتى صلاة الجمعة يمكن أن نتزل على قول من قال اثنان أو ثلاثة جماعة، ويصليها  الإمام بأهل بيته وأولاده في المسجد، حتى لا تعطل شعيرة الجمعة مطلقا، جريا على القاعدة الأصولية “مراعاة الخلاف” والقاعدة الفقهية الميسور لا يسقط بالمعسور
.

فقد اختلف العلماء في العدد المتعين لإقامة صلاة الجمعة، فبعضهم يشترط لإقامة الجمعة أربعين رجلاً وهو مذهب الشافعية والحنابلة، ومنهم من يشترط ثلاثة رجال سوى الإمام، وهو مذهب أبي حنيفة في الأصح عنه، ومنهم من يشترط اثني عشر رجلاً مقيمين غير الإمام، وهو مذهب المالكية في المشهور عنهم.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية أن الجمعة تصح بثلاثة رجال.
وقال: مادامت تجب عليهم فهي تصح منهم.
قال ابن عبد البر في الاستذكار: “…عن سعدان بن أبي طلحة اليعمري قال: قال لي أبو الدرداء: أين مسكنك؟ قال: قلت: قرية دون حمص، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ما من ثلاثة في قرية ولا بلد، ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية، قال زائدة: يعني الصلاة في جماعة، وذكره أبو داود عن أحمد بن يونس بإسناده، وقال: قال زائدة قال السائب: يعني الجماعة، وبالله التوفيق.
 وقد فصل ابن رشد – رحمه الله- في بداية المجتهد، الكلام حول هذه الأقوال، وسبب الخلاف في ما بينها، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل الصحابة والسلف الصالح على تكثير عدد المصلين لصلاة الجمعة، واجتماع أهل البلدة في مسجد واحد قدر الإمكان؛ مما يدل على أن كثرة واجتماع المصلين لها بالخصوص أمر مقصود شرعا، ومع ذلك فإنه لم يثبت نص شرعي من القرآن أو من صريح السنة يشترط عدد معينا لصحة صلاة الجمعة، وذلك مما تشتد الحاجة لتناقله.

  • حكم  الأذان عند المالكية:

قال ابن عبد البر: “واختلف العلماء في وجوب  الأذان فالمشهور من مذهب مالك عنه، وعن أصحابه أن  الأذان إنما هو للجماعات حيث يجتمع الناس للأئمة فأما ما سوى ذلك من أهل الحضر، والسفر فإن الإقامة تجزيهم.
واختلف المتأخرون من أصحاب مالك على قولين في وجوب  الأذان; فقال بعضهم: الأذان سنة مؤكدة واجبة على الكفاية وليس بفرض، وقال بعضهم: هو فرض على الكفاية في المصر خاصة، وقول أبي حنيفة وأصحابه أنه سنة مؤكدة على الكفاية، وقال الشافعي: لا أحب (لأحد) أن يصلي إلا بأذان وإقامة، والإقامة عنده أوكد، وهو قول الثوري.
وذكر الطبري عن مالك أنه قال: إن ترك أهل مصر  الأذان عامدين أعادوا الصلاة. انتهى

  • ماذا يقال في  الأذان من اجل التخلف عن الجماعة:

 لا خلاف بين العلماء في أنه يجوز للمؤذن أن يقول: “الصلاة في الرحال” أو “صلوا في رحالكم” أو “صلوا في بيوتكم.”
إذا كان هناك عذر من مطر أو وحل أو برد شديد أو ريح شديدة.
ويضاف له ما وقع من نوازل وأعذار قاهرة مثل هذا الوباء المعدي او غيره، إذا كان سهل الانتقال.(مثل فيروس الكورونا)
وهذا لثبوت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

  • موقع صلوا في رحالكم من  الأذان؟

 وقد جاءت السنة بتخيير المؤذن ، فإما أن يقول هذا القول بعد تمام  الأذان، وإما أن يقوله بدلا من قوله: “حي على الصلاة”.
جاء في موطأ  الإمام مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح فقال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول: ألا صلوا في الرحال.”
قال ابن عبد البر في الاستذكار: “وفي هذا الحديث من الفقه الرخصة في التخلف عن الجماعة في ليلة المطر والريح الشديدة ، وقيل: إن هذا إنما كان في السفر، وعلى ذلك تدل ترجمة مالك للباب الذي ذكر فيه هذا الحديث، وقيل أن ذلك كان يوم جمعة..
وقيل: إن ذلك جائز في الحضر والسفر، ولا فرق بين الحضر والسفر; لأن العلة المطر والأذى، والحضر والسفر في ذلك سواء، فيدخل السفر بالنص، والحضر بالمعنى; لأن العلة فيه المطر .
وقد رخصت جماعة من أهل العلم في وقت المطر الشديد في التخلف عن الجمعة لمن وجبت عليه ، فكيف بالجماعة في غير الجمعة، وقد مضى القول فيمن ذهب إلى أن الجماعة شهودها لمن سمع النداء فريضة، ومن قال إن ذلك سنة، وليس بفرض..
قال ابن عبد البر: ..وفي هذا الحديث دليل على جواز التأخر في حين المطر الدائم عن شهود الجماعة ، والجمعة لما في ذلك من أذى المطر ، والله أعلم لهذه الحال ، وإذا جاز للمطر الدائم ظاهرا أن يصلي المسافر فيومئ من الركوع والسجود من أجل الماء والمطر والطين ، ولولا المطر الدائم ، والطين لم يجز ذلك له كان المختلف عن شهود الجمعة والجماعة أولى بذلك..
قال ابن عبد البر: “قد أجمع العلماء على أن المسجد إذا أذن فيه واحد وأقام أنه يجزئ أذانه وإقامته جميع أهل المسجد، وأن من أدرك الإمام في سفر أو حضر وقد دخل في صلاته أنه يدخل معه ولا يؤذن ولا يقيم، فدل إجماعهم في ذلك كله على بطلان قول من أوجب  الأذان على كل إنسان في خاصة نفسه مسافرا كان، أو غير مسافر، ودل على أن  الأذان والإقامة غير واجبين.
…والذي يصح عندي في هذه المسألة أن  الأذان واجب فرضا على الدار أعني المصر أو القرية ، فإذا قام فيها قائم واحد أو أكثر ب الأذان سقط فرضه عن سائرهم. انتهى.

 روى البخاري (666) ، ومسلم (697) عَنْ نَافِع ، قَالَ : ” أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ ، ثُمَّ قَالَ : صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ : ” أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ” فِي اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ ، أَوِ المَطِيرَةِ ، فِي السَّفَرِ .
ففي قوله : ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ : ” أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ” ، دليل على أنها تقال بعد  الأذان .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الحديث : ” صريح في أن القول المذكور كان بعد فراغ  الأذان ” انتهى من “فتح الباري” لابن حجر (2/ 113).
 وروى البخاري (668)، ومسلم (699) واللفظ له ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَارِثِ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ : ” إِذَا قُلْتَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، فَلَا تَقُلْ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، قُلْ : صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ ” ، قَالَ : فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ ، فَقَالَ: ” أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا ؟! ، قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ ، فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ
وهذا الحديث صريح في أن قول : ” صلوا في الرحال ” يقال بدلا من “حي على الصلاة” .
 وعلل ذلك العراقي رحمه الله ” بأنَّ قَوْلَهُ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ ، يُخَالِفُ قَوْلَهُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ الْمُؤَذِّنُ تَعَالَوْا ، ثُمَّ يَقُولُ : لَا تَجِيئُوا ” انتهى من “طرح التثريب” 2/ 320.
ونقل الحافظ ابن حجر العلة نفسها عن ابن خزيمة رحمه الله في قوله : ” إنه يقال ذلك بدلاً من الحيعلة ، نظرا إلى المعنى ؛ لأن معنى حي على الصلاة : هلموا إليها ، ومعنى الصلاة في الرحال : تأخروا عن المجيء ، فلا يناسب إيراد اللفظين معا ؛ لأن أحدهما نقيض الآخر “.
 ثم رد ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله ، فقال : ” ويمكن الجمع بينهما -ولا يلزم منه ما ذكر- بأن يكون معنى الصلاة في الرحال : رخصة لمن أراد أن يترخص ، ومعنى هلموا إلى الصلاة: ندب لمن أراد أن يستكمل الفضيلة ، ولو تحمل المشقة ” انتهى من “فتح الباري” (2/113).
 قلت : وعلى هذا يمكن لغير صاحب العذر القاهر أن يصلي في المسجد كالإمام مع أهله إذا كان يسكن في المسجد.
 وقال النووي -رحمه لله- في “شرح صحيح مسلم” (5/207) : “في حديث ابن عباس رضي الله عنه أن يقول: ألا صلوا في رحالكم. في نفس  الأذان، وفي حديث ابن عمر أنه قال في آخر ندائه .
والأمران جائزان، نص عليهما الشافعي رحمه الله تعالى في “الأم” في كتاب  الأذان، وتابعه جمهور أصحابنا في ذلك ، فيجوز بعد  الأذان، وفي أثنائه؛ لثبوت السنة فيهما، لكن قوله بعده أحسن، ليبقى نظم  الأذان على وضعه.” انتهى.
وقال ابن مفلح رحمه الله، بعد أن ذكر حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: “فدل على العمل بأيهما شاء” انتهى من “الفروع” (3/63).

  •  خلاصة المسالة:

أنه يجوز في حال المطر، أو الريح الشديدة، أو الثلج الكثيف، او المرض الوبائي المعدي كما هو الحال في فيروس الكورونا أو ما شابهه: أن يقول المؤذن: “صلوا في بيوتكم “، بدلاً من “حي على الصلاة”. ثم يقول بعد ذلك: “حي على الفلاح”، إلى آخر  الأذان.

والله أعلم

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى