الفتاوىفتاوى كورونا

صلاة مسلمي إندونيسيا فتوى حضارية رصينة، وردود فعل شاذة بل جاهلة.

  • د. أحمد محمد زايد

وردت صور لمسلمي إندونيسيا وهم يصلون الجمعة جماعة في صورة غير معتادة، حيث تباعد المصلون في الصف الواحد، كل على سجادة خاصة، وعلى وجه كل واحد منهم كمامة.
وقد قرأت هجوما من بعض مدعي العلم على هذه الصورة، جازمين – جهلا – بأن مثل هذه الصلاة باطلة، وأن هذا الشكل مبتدع مخالف للسنة.
وقد حزنت كثيرا لهذه التشدد والتنطع، بل والجهل الذي تصحبه جرأة على دين الله تحت حماسة فارغة لا تغني مع الجهل.
وقد دفعني هذا إلى كتابة هذه السطور للرد على مثل هذا الإنكار الذي لا يسنده علم ولا قال به فقيه معتبر إلا ابن حزم وكلامه مردود، وإن قبلناه فعلى حالة الاختيار لا الاضطرار.

 

  • أولا: حكم تسوية الصفوف

اتفق العلماء على مشروعية تسوية الصفوف، واختلفوا في درجة هذه المشروعية إلى قولين:
1- جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أن تسوية الصفوف مستحبة وليست واجبة، ولا تبطل الصلاة بتركها.

2- وذهب البخاري وابن حزم وابن تيمية وكذلك يظهر من كلام ابن حجر في الفتح ميله إلى الوجوب وتبعه في هذا الشوكاني.
ملحوظة مهمة:
من قال من الفقهاء بالوجوب (وهم قلة) لم يقل ببطلان الصلاة بترك التسوية، وإنما قالوا بالتأثيم فقط، وليس كل فعل يأثم المرء بتركه يكون مبطلا، إلا ابن حزم فقد قال بالبطلان، وقد أفرط في ذلك وبالغ لأن النص الذي اعتمد عليه مختلف فيه، واعتقد أن كلام ابن حزم بالبطلان وإن كان مخالفا بذلك رأي الأمة جمعاء إلا أنه يحمل على حالة الاختيار، حيث لم يتعرض لحالة ترك التسوية في حالة الاضطرار.
“قال الشوكاني (3/223) :” قَوْله: (فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَام الصَّلَاة) فِي لَفْظ الْبُخَارِيِّ ” مِنْ إقَامَة الصَّلَاة ” وَالْمُرَاد بِالصَّفِّ: الْجِنْس. وَفِي رِوَايَة: ” فَإِنَّ تَسْوِيَة الصُّفُوف “، وَقَدْ اسْتَدَلَّ ابْنُ حَزْمٍ بِذَلِكَ عَلَى وُجُوب التَّسْوِيَة، قَالَ: لِأَنَّ إقَامَة الصَّلَاة وَاجِبَة، وَكُلّ شَيْء مِنْ الْوَاجِب وَاجِب، وَنَازَعَ مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاع عَلَى عَدَم الْوُجُوب وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَبِلَالٍ مَا يَدُلّ عَلَى الْوُجُوب عِنْدهمَا لِأَنَّهُمَا كَانَا يَضْرِبَانِ الْأَقْدَام عَلَى ذَلِكَ
قَالَ فِي الْفَتْح: وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرُّوَاة لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَة، يَعْنِي أَنَّهُ رَوَاهَا بَعْضهمْ بِلَفْظِ: ” مَنْ تَمَام الصَّلَاة ” كَمَا تَقَدَّمَ
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «فَإِنَّ إقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ» عَلَى أَنَّ التَّسْوِيَة سُنَّة، قَالَ: لِأَنَّ حُسْن الشَّيْء زِيَادَة عَلَى تَمَامه. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ رِوَايَة: ” مِنْ تَمَام الصَّلَاة ” وَأَجَابَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: قَدْ يُؤْخَذ مِنْ قَوْله: ” تَمَام الصَّلَاة ” الِاسْتِحْبَاب؛ لِأَنَّ تَمَام الشَّيْء فِي الْعُرْف أَمْر خَارِج عَنْ حَقِيقَته الَّتِي لَا يَتَحَقَّق إلَّا بِهَا”.
وقال ابن حجر :”” ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسوِّ صحيحة”.

 

  • ثانيا: خصوصية الفتوى في النوازل

لا خلاف أن النوازل تحتاج إلى نظر فقهي دقيق، يراعي الضرورات والحاجات، والمتغيرات التي توجب تغير الفتوى وعدم جمودها أو تسويتها بحالات الاختيار.
وفي تقديري أن من أفتى مسلمي إندونيسيا بهذه الفتوى فقيه متمكن، وبصير بمقصد الشرع، يستحق التقدير، لأنه فرق بين حالة الاختيار وحالة الاضطرار، وقد لمحت من الفتوى قوة نظر فقهي في الجوانب الآتية:
1- التفريق بين المقصد الأكبر والوسيلة، فالمقصد أداء الفريضة والاجتماع والألفة، ومن وسائل تحقيقه تسوية الصفوف بمحاذاة المناكب والأقدام في حالة الاختيار، وأداء الجمعة والجماعة مصلحة أصلية مقصودة، والتسوية وسيلة تكميلية، ولا خلاف في جواز ترك التكميلي إن كان الإتيان به يخل بما هو أعلى، وهذا ما فعله المفتي في هذه النازلة، حفاظا على أرواح الناس ودفعا للضرر عنهم.

2- موافقة المفتي جماهير الفقهاء، بكون التسوية سنة، والسنة قد يكون يجب تركها أحيانا خوفا من ضرر أو ما في حكمه.
3- وافق المفتي الروح العامة للفقه الإسلامي، ولنقرأ هذا النص للإمام النووي رحمه الله في المجموع (2/247).
“إذَا ازْدَحَمَ جَمْعٌ عَلَى بِئْرٍ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِقَاءُ مِنْهَا إلَّا بِالْمُنَاوَبَةِ لِضِيقِ الْمَوْقِفِ أَوْ لِاتِّحَادِ آلَةِ الِاسْتِقَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّعُ وُصُولَ النَّوْبَةِ إلَيْهِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَصِلُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَقَدْ حَكَى جُمْهُورُ الْخُرَاسَانِيِّينَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَصْبِرُ لِيَتَوَضَّأَ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَأَنَّهُ نَصَّ فِيمَا لو حضر جمع من العراة وليس معهم الا ثوب يَتَنَاوَبُونَهُ وَعَلِمَ أَنَّ النَّوْبَةَ لَا تَصِلُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ أَنَّهُ يَصْبِرُ وَلَا يُصَلِّي عَارِيًّا وَلَوْ اجْتَمَعُوا فِي سَفِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ ضَيِّقٍ وَهُنَاكَ مَوْضِعٌ يَسَعُ قَائِمًا فَقَطْ نَصَّ أَنَّهُ يُصَلِّي فِي الْحَالِ قَاعِدًا وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ النُّصُوصِ عَلَى طَرِيقَيْنِ أَظْهَرُهُمَا وَهِيَ الَّتِي قَالَ بِهَا الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَقَطَعَ بِهَا صَاحِبُ الْإِبَانَةِ وَنَقَلَهَا عَنْ الْأَصْحَابِ مُطْلَقًا أَنَّ الْمَسَائِلَ كُلَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَظْهَرُهُمَا يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ وَعَارِيًّا وَقَاعِدًا لِأَنَّهُ عَاجِزٌ فِي الْحَالِ وَالْقُدْرَةُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَا تُؤَثِّرُ كَمَا لَوْ كَانَ مَرِيضًا عَاجِزًا عَنْ الْقِيَامِ وَاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْقُدْرَةُ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ قَاعِدًا وَبِالتَّيَمُّمِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ في المسائل كلها كالمريض وكر إمَامُ الْحَرَمَيْنِ احْتِمَالًا فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى الْمُصَلِّي قَاعِدًا لِنُدُورِهِ وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي وُجُوبَ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ قَوْلَيْنِ وَقَالَ أَصَحُّهُمَا تَجِبُ كَالْعَاجِزِ الَّذِي مَعَهُ مَاءٌ لَا يَجِدُ مَنْ يوضئه فانه يتيم وَيُصَلِّي وَيُعِيدُ وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ”
فأنت ترى في هذا النص كلام فقهاء الشافعية رضي الله عنهم يسقطون ما هو متفق على وجوبه للتعذر، وخوف فوت الوقت، واستظهر ذلك النووي رحمه الله.

والخلاصة
أننا أمام فقه إسلامي حضاري لا يعرف ضيق الأفق، ولا يعرف هذا الجمود والتحجر والحماسة الفارغة التي تشهر في وجوه النصوص النصوص دون فقه أو تمييز بين الفتوى في حالة الاختيار والفتوى في حالة الاضطرار، أو الفتوى في الأحوال العادية والفتوى في النوازل.

والله أعلم

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى