الفتاوىفتاوى كورونا

بيانُ دارِ الإفتاءِ الليبية حولَ وباءِ فايروس كورونا

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرحيمِ

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله، وعلى آلهِ وصحبِه ومَن والاه. وبعدُ؛

فإنّ اللهَ تباركَ وتعالى – خالقُ الخلقِ ومالكُ المُلك – شاءَ مِن بالغِ حكمتِهِ وكمالِ تدبيرِهِ؛ أنْ جعلَ خلقَهُ يسيرُ وفقَ نواميسَ ثابتةٍ، وأسبابٍ ظاهرةٍ مُحكمةٍ، نتائجُها معلومةٌ للعقلاءِ؛ (لِيبلُوَكمْ أيُّكُم أَحسنُ عَمَلًا)، وهيَ أسبابٌ قانونُها واحدٌ منضبطٌ ثابتٌ، دالّةٌ على وحدانيةِ الخالقِ وعظيمِ قدرتِهِ.

والغالبُ في أُمم الأرضِ، لكثرةِ ما يرونَ مِن انضباطِ هذهِ الأسبابِ الماديةِ الظاهرةِ، فيما ينفعُهُم ومَا يضرّهمْ؛ أنْ تصيرَ هي غايتُهُم، ويجعلُوهَا أكبرَ همِّهِم ومبلغَ علمِهمْ، وينسَوا مُسبِّبَ الأسبابِ مُدبِّرَ الأكوانِ، فلا يلْتجئون إليهِ إلَّا مضطَّرين، بعدَ أنْ تنسدَّ أمامَهم الأبوابُ، كمَا قال تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

وما يُصيبُ الناسَ مِن البلاءِ والأوبئةِ والكوارثِ والزلازلِ والأعاصيرِ في مرِّ العصور، على الرغمِ مِن أخذهمْ بأسبابِ الوقايةِ منها؛ هوَ للتنبيهِ، وللتحذيرِ والتخويفِ؛ حتى لا يُفرِطوا في التعلّقِ بالأسبابِ، ويغفلوا عن خالقِها، قال تعالى: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّلَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ).

والفايروساتُ المسببةُ للأمراضِ هيَ مِن عجائِبِ مخلوقاتِ اللهِ، الدّالّةِ على عظيمِ قدرتِهِ، وإحاطةِ علمِهِ، فهيَ معَ أنّها مِن أضعفِ مخلوقاتِهِ، ولَا تُرصدُ إلّا بالمِجهرِ، هيَ مِن أَعتَى مخلوقاتِهِ، لا تقتُلُها الأدويةُ مهمَا سُلطَت علَيها، ويقفُ العالَمُ كلّه أمامَهَا متَحيِّرًا.

أضعَفُ مخلوقاتِ اللهِ أحدَثَ هلعًا بينَ سُكانِ الأرضِ، يتحدَّاهُم مجتمعينَ معَ كلِّ ما أُوتُوا، وما وصَلُوا إليهِ مِن التباهِي والزّهْوِ بالقوة، الذي يُلوّحُون به من حينٍ لآخر، وبالتقدّمِ العلميِّ والصّناعيِّ والاختراعِ، سواء في عالمِ الأسلحةِ التقليديةِ الفتاكةِ، التِي يقتلونَ بها البشرَ دونَ هوادةٍ، وفي غيرِ التقليديةِ؛ البيولوجية والكيمياوية والنووية، كلّها لمْ تكنْ لتقفَ أمامَ أضعفِ مخلوقاتِ اللهِ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).

بدأَ هذا الوباءُ بالبلادِ الصناعيةِ، التي هيَ أقدرُ مِن غيرِها على الأخذِ بالأسبابِ – لو كانَ الأمرُ للأسبابِ وحدَهَا – وعلى رأسِها الصينُ، قلعةُ الصناعةِ في العالمِ، فَشَلَّ الحركةَ فيها كمَا شَلَّ غيرَها منَ البلاد، حبسَ الناسَ في البيوتِ والملاجئِ، ومنعَ التنقلَ، وقفلَ المصانعَ والمَدارسَ والمطارَاتِ، أصابَ الرّؤساءَ والمرؤوسينَ على حدٍّ سَواء، لكلٍّ امرئ منهم شأنٌ يغنيهِ.

ودارُ الإفتاءِ الليبية، إذْ تشيرُ إلى ما أعلنتهُ منظمةُ الصحةِ الدوليةِ؛ مِن أنّ فيروسَ “كورُونا – كوفيد-19” قد باتَ وَباءً عالميًّا، لَتُذَكِّرُ أمَمَ الأرضِ عامّةً، والمسلمينَ خاصةً بالآتي:

 

1- تدعوهُم إلى الإيمانِ بالله وإفرادِهِ بالعبادة، وتركِ الشركِ والإلحادِ، تدعُوهُم إلى التوبةِ إليهِ من سائرِ الذنوبِ، فإنّ التوبةَ ترفعُ البلاءَ، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
وتدعُوهُم كذلكَ إلى التضرّعِ إليهِ برفعِ الضرِّ، فإنّهُ لا يرفعُهُ سِواهُ، قالَ اللهُ تعالَى: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)، ومِن التضرّعِ إليهِ التحصّنُ بالأذكارِ والأدعيةِ النبويةِ اليومية، التي أرشدَ إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم.

 

2- مِن التوبة الكفّ في هذا التحالفِ الدوليّ عن ظلمِ الشعوبِ المستضعَفةِ، وسفكِ الدّماء الحرامِ، وتدميرِ المدُنِ على رؤوسِ ساكنيهَا، وتهجيرِ النّاسِ مِن ديارِهم، واستباحةِ حرماتهم، وسلبِ ممتلكاتِهم، والإلقاءِ بهم في العراءِ والملاجئِ، نراها في رقعةٍ واسعة مِن العالمِ، ومنها بلادنا.
كما تدعُو إلى التآزرِ والتعاونِ على دفعِ أهلِ البغيِ والعدوانِ، والعملِ على إقامةِ العدلِ، وردِّ الحقوقِ إلى أهلِها، فإنَّ فشوَّ الظلمِ وظهورَ البغيِ والتعدّي على حرمات الناسِ، مِن أسبابِ ظهورِ الموَتَانِ وتفشّيهِ في أهلِ الأرضِ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (ومَا ظَهَرتِ الفاحشَةُ في قومٍ حتّى يُعلنُوا بِها، إلَّا ظهرَ فيهمُ الطّاعونُ، والأمراضُ التِي لم تكنْ في أسلافِهِم)، والفاحشةُ كلُّ مَا عظُم وفحُش مِن المعاصِي، وليس الزّنا خاصّة.
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (مَا ظَهَرَ الْبَغْيُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الموتَانُ).

 

3- مع اليقينِ الكاملِ بأنّ النفعَ والضرَّ مِن عند اللهِ، فإنه لا يجوزُ للمسلمِ عدمُ التقيدِ بالأسبابِ الظاهرةِ، التي تحميه مِن المرضِ، فإذَا ما قرّرَ أهلُ الاختصاصِ شيئًا مِن هذه التعليماتِ، لمريضٍ مشتبهٍ فيهِ أو جماعةٍ، كعزلِهم، أو وضعِهمْ في الحجرِ الصحيّ، أو عدمِ التنقلِ والسفرِ، أوالقدومِ على أرضٍ حلّ بها الوباءُ، أو عدم الخروج منها، فعليهم الالتزامُ بذلكَ، وتَحرمُ عليهم مُخالفةُ مَا طُلبَ منهم، حِفاظًا على أنفسِهِم، وحمايةً لغيرِهم، ولأنّ في المخالفة إلقاءً بالنفس إلى التهلكة، قال تعالى: (ولا تُلقُوا بأيدِيكم إلَى التَّهلكةِ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يُوردَنّ مُمرضٌ على مُصحّ)، وقال: (إِذَا سمِعتُم بهِ – أي الطّاعون – بأرضٍ فلا تقْدُمُوا عليهِ، وإذَا وقعَ بأرضٍ وأنتُم بِها فلَا تَخرُجُوا فرارًا منهُ).
وممّا يجبُ التقيدُ بهِ في هذَا الشأنِ؛ الابتعادُ عن أماكنِ الازدحامِ، والمحافظةُ على النظافةِ العامّة؛ كغسلِ اليدينِ بصورةٍ متكررةٍ، قبل استعمالِهمَا في الأكلِ وغيره، ووضع اليدِ أو الثوبِ على الفم عندَ التثاؤبِ والعُطاس، كما هي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لمنع انتشار الرذاذِ، الذي من شأنِه أن ينقلَ الأمراضَ.

 

4- مَن خاف انتقالَ المرضِ بحضورِ صلاةِ الجمعة أو الجماعةِ، فإنها تسقطُ عنه، ويصلِّي في بيته؛ لأنّ هذا مِن الأعذارِ التي تبيحُ التخلف عن الجماعة، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ باردةٍ أن يُنادَى في الناس: (أَلَا صلُّوا فِي رِحالِكُم).

 

5- المسلمُ إذا ما أخذَ بأسبابِ الوقايةِ ثمَّ أُصيبَ، فعليهِ أنْ يتداوَى ويحتسِبَ، وإذا ماتَ تُرجَى له مِن اللهِ الشهادةُ، قياسًا على ماجاءَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطاعونِ في قوله: (الطاعونُ شهادةٌ لكلِّ مسلمٍ)، وقوله: (الشهداءُ خمسةٌ … وعدَّ فيهم المطعُون).
وقد ماتَ في طاعونِ عَمْواسَ بالشامِ عددٌ مِن خيارِ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ منهم أبو عبيدة بن الجراح؛ وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، وأشرافٌ من الناس.

 

6- تُذكرُ دارُ الإفتاءِ المسؤولين بالدولةِ الليبية، بأنْ يتحمّلوا مسؤولياتهم تُجاهَ مواطنيهم، وذلك باتخاذ حُزمة من الإجراءاتِ الكفيلةِ بالوقاية من المرضِ، وتوفير كافةِ المتطلباتِ التي مِن شأنها التعاملُ بفاعليةٍ مع هذا الوباءِ.
وسكوتُ المسؤولين عن الكشفِ عمَّا أعدُّوه لمواجهةِ هذا الوباءِ، وعدم صدورِ بياناتٍ رسمية بمتابعتهِ، كما عوّدُونا بسكوتِهم عن كلّ الأزماتِ الأخرى التي تمرُّ بها البلد، هو مِن التخلفِ الذي قد يؤدِّي إلى عواقبَ وخيمةٍ.
وعدمُ اهتمام المسؤولين من وزارة الصحةِ فما فوق بذلكَ، في هذا الوقتِ، هو مِن التفريطِ وغشِّ الرعيةِ، ومَن ماتَ وهو غاشٌّ لرعيتهِ كانتِ الجنةُ عليه حرامًا، كمَا أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
هذا للتذكيرِ والاعتبارِ.

وصلَّى اللهُ وسلمَ على سيدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ

دارُ الإفتاءِ الليبية

صدر يوم الجمعة:
18 رجب 1441هـ
الموافق: 13/ 3/ 2020م

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى