السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله، هل يجوز لي صلاة الجمعة في البيت مع أعمامي وأولادهم في المنزل، لأن كثيرا من الجوامع أغلقت في مصر ونحن نقيم في نفس العمارة فهل يصح أن يخطب أحدنا ونصلي الجمعة.
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله وآلة
وأعود لجواب سؤالك فأقول:
صلاةُ الجُمعة من أعظم شعائر الإسلام، وهي واجبةٌ على كلِ رجلٍ بالغٍ مقيم، وعند تعذُّر إقامتها في المساجد بسبب الوباء، أو غيره من الضرورات، فهناك رأيان مُعتبران، يمكن للمسلم أن يأخذ بهما دونما حرج، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه النازلة لم يشهد لها التاريخ الإسلامي مثيلاً، كما أشرت سابقا.
والرأي الأول الذي أقول به، وأراه راجحاً، هو أن يصليها المسلمُ القادرُ على أداء الخطبة، في أي مكان يصلح للصلاة، شريطة أن تتوفرَ له جماعة، بحيث يقيمُ الأذانَ في وقت الظهر، ويخطب، ثم يقيم ويصلي ركعتين، فالجمعة فريضة فرضها الله تعالى، وأمر بها، ولا يحل تعطيلها إن تمكن المسلم من فعلها بأركانها وشروطها التي جاءت بها الأدلة الصحيحة الصريحة، فالله تعالى يقول ” فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ” ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ” وَما أَمَرْتُكُمْ به فَافْعَلُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ “، والقاعدة الفقهية تنص على أن الميسور لا يسقط بالمعسور.
وأقل الجماعة هي ثلاثة، أو اثنين سوى الإمام، على مذهب السادة الحنفية، وهو أقوى المذاهب حجة في تقدير العدد من حيث الدليل، لما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ” إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم ” وهذا عام لا مُخصص له، ويعم كل صلاة؛ الجمعة وغيرها، قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار:” الاثنان فما فوقهما جماعة، كما تقدم في أبواب الجماعة، وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع، والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. وقد قال عبد الحق إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث. قال السيوطي: لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص.”[3] وقال الإمام الفقيه المالكي عبد الحق الأشبيلي في الأحكام الوسطى ” ولا يصح في عدد الجمعة شيء “[4]، وقال ابن المنذر بعد ذكره لآية سورة الجمعة :” فاتباع ظاهر كتاب الله عز وجل يجب، ولا يجوز أن يستثنى من ظاهر الكتاب جماعة دون عدد جماعة بغير حجة ،ولو كان لله في عدد دون عدد مرادٌ، لبين ذلك في كتابه، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فلما عم ولم يخص كانت الجمعة على كل جماعة في دار إقامة على ظاهر الكتاب، وليس لأحد مع عموم الكتاب أن يخرج قوما من جملته بغير حجة يفزع إليها، “[5]
كما لا يُشترط لصحتها أن تكون في مسجد جامع، وإن كان هذا هو الأولى والأجدر بنيل فضائلها الخاصة؛ من سعي، وتبكير، ورفع درجات الساعي، وأقرب لتحقيق بعض مقاصدها من تجميع الناس، وإشهارها بصفتها، ولكن عدم اشتراط المسجد في مثل هذه النازلة الجديدة التي قد تطول يحقق مقصود إقامتها وهو الأصل، فالامتثال للأمر هو أعظم المقاصد، ثم إن إقامتها بقدر الوسع فيه تحقيق لمقاصد أخرى من سماع الخطبة والوعظ والعلم والتذكرة، بخاصة في هذه الظروف. بل إن الآية نصت على السعي للذكر” فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ” والذكر هنا هو الخطبة، وليست الصلاة باتفاق جمهور من المفسرين *[6]
وفي اشتراط المسجد قال الإمام العراقي الشافعي: “مذهبنا أن إقامة الجمعة لا تختص بالمسجد بل تقام في خطة الأبنية فلو فعلوها في غير مسجد لم يصل الداخل إلى ذلك الموضع في حالة الخطبة إذ ليست له تحية فلا يترك استماع الخطبة لغير سبب وهذا الحديث محمول على الغالب من إقامة الجمعة في المساجد.” [7]، ولم يشترط السادة الحنفية المسجد، ولكنهم اشترطوا إذن الإمام [8]، وهذا الشرط- أي إذن الإمام – لا دليل عليه من الكتاب والسنة، فالجمعة صلاةٌ، كسائر الصلوات، ولا يُشترط إذن الإمام لإقامتها، ولو اعتبرناه شرطا للصحة لحكمنا ببطلان صلاة ملايين من المسلمين في العالم اليوم، ولو اعتبرناه شرطا للوجوب لأسقطنا فريضة الجمعة على السواد الأعظم من الأمة!.
وحتى إن كانت الشروط معتبرة، ودليلها صحيحا، فإن بعض الشروط تسقط للضرورة أو الحاجة العامة، كسقوط شرط العدالة في الشهود، وشرط الكفاءة في لزوم الزواج عند المالكية، ونحو ذلك.
وأما من تحفظ على هذا الرأي خوفا من مآلاته، وخشيَ أن تَهُجَرَ الناسُ المساجدَ بعد ذهاب الوباء، فنقول له، أن هذا أمر مؤقت، ثم نعود للأصل وهو إشهارها وإعمار المساجد بها، ثم إن هذا التخوف غير صحيح بحكم التجربة والعادة، فجمهور الأمة الإسلامية من أتباع المذهب الحنفي والمالكي والشافعي، يعلمون أن الصلاة الفريضة في المسجد هي سنة مؤكدة، ومع هذا لم يتركوا بيوتَ الله تعالى، بل نراها تزداد عمرانا يوما بعد يوم والحمد لله. ونحن نقول أن هذه الإباحة بقيامها في البيوت أو في مرآب السيارات، أو غير ذلك، هو لظرفٍ مؤقت، وقد أقام المسلمون في بلاد الغرب، صلاة الجمعة في غرف صغيرة في الجامعات والمستشفيات، وأقام الدعاة والعلماء صلاة الجمعة في قاعات الفنادق، ولم ينكر عليهم حنفي ولا مالكي،…وقد صلى كثيُر من المسلمين الجمعة في الزنازين لسنين طويلة، وكانت لهم منارة علم وموعظة وسلوى ومعين، وحكم السجين ظلما حكم الأسير، قال ابن محرز :” أنه لو اجتمع جماعة أسرى في بلاد العدو وبمثلهم تجب الجمعة وخلى العدو بينهم وبين إقامة دينهم أنهم يقيمون الجمعة والعيدين كانوا في سجن أو غيره.”[9]
والتفريق بين الغرف والقاعات أو الزنازين، وبين البيوت، لجواز الجمعة وقت الحاجة، هو تفريق دون مسوغٍ أو دليل! وتناقض يغفل عنه بعض الفضلاء، ومن حسن فقه الرجل أن لا يفرق بين متماثلين، كما لا يجمع بين متفرقين، ومن يفرق بين متماثلين دون اختصاص أحدهما بوصف فقد تحكّمَ دون دليل .قال صاحب الإحكام في شرح أصول الأحكام: “أنه لا مستند لاشتراط عدد أوضح وأصح من حديث أبي سعيد ويشهد له عموم الآية وما سواه من الأقوال يحتاج إلى برهان. قال شيخنا ولا برهان يخرجه من هذا العموم فدل على أنها تنعقد بالجمع وأقله ثلاثة “،… ثم قال: “ولا دليل على إسقاطها عنهم، وإسقاطها عنهم تحكّم بالرأي الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة، ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس صحيح.” [10]
وقد وجدت – ولله الحمد – من وافقني هذا الرأي، كشيخنا العلامة محمد الحسن الددو، والعلامة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني، وغيرهم من المعاصرين، وأنا أقول بجواز ذلك، وتخيير المسلمين بين صلاتها جُمعة في مكان إقامتهم على النحو الذي سلف، وهذا الأرجح، أو صلاتها ظهرا، وهو الرأي الثاني الذي أشرت إليه في بداية الحديث.
ويسعُ المسلمَ أن يقلدَ من منع الصلاة في البيوت، ورجح صلاة الظهر يوم الجمعة لمن تعذر عليه المسجد، فكلهم عالم فقيه مُحسن، ولا إنكار على من اختار أحد الرأيين، ولكلٍ وجهةٌ هو موليها.
متمنيا أن يجد بعض العلماء في هذا البيان ما يخفف من حدة الإنكار على من قال بغير رأيهم
والله أعلم وعلمه أحكم وصلى الله على محمد وآلة وسلم.
ونيس المبروك، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
الثاني من شعبان، 1441هـ، الموافق 2020/3/26م