- د. مسعود صبري
لم يغب عن أذهاننا – كمسلمين – الموقف الفرنسي من الحجاب، واعتباره نوعا من التمييز القائم على الدين، وأنه مرفوض فرنسيا، بل كأنه توجه لأوربا أن تسعى لرفض حجاب المسلمات داخل الدول الأوربية.
ثم جاء الرئيس الفرنسي ساركوزي ليقول في خطاب رسمي: إن البرقع (النقاب) رمز لاستعباد المرأة، وأن فرنسا لن تقبل بهذا، بل تسعى لاستصدار قانون يمنع النقاب في بلاده.
وربما لا يمثل محاولة ساركوزي منع النقاب في بلاده خطرا على الفكر الإسلامي، ولكن الخطر يمكن في اجتهاد الفقهاء المعاصرين، ونظرهم إلى تلك القضية، فلو سكت الفقهاء لما نسب إليهم شيء، ولكن الأخطر هو الاجتهاد في تلك المسألة. وإليك أهم الاجتهادات التي طرحت على الساحة الإسلامية في هذه القضية.
وممن أدلوا في هذه القضية فضيلة شيخ الجامع الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي، وقد رأى الدكتور طنطاوي أن النقاب في فرنسا شأن داخلي، وأن النقاب في الشريعة ليس فرضا، ولكن الحجاب بأن تغطي المرأة جميع جسدها عد الوجه والكفين هو فريضة، وللمرأة أن تختار النقاب من غيره، فهذا محل اختيار، ولكن إن طلبت الدولة التي تعيش فيها المسلمة منها خلع النقاب، فعليها أن تخلع النقاب، وذلك في الدول غير الإسلامية؛ لأنها تكون ساعتها مضطرة، وليس على المضطر إثم أو جناح، أما في الدول الإسلامية فيجب على المرأة أن تحافظ على حجابها.
واستدل الدكتور طنطاوي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم للسيدة أسماء بنت أبي بكر: “يا أسماء إذا بلغت المرأة المحيض؛ فلا يصح أن يُرى منها غير هذا وذاك”، وأشار إلى الوجه والكفين.
واتفق مع الدكتور طنطاوي في الرأي الدكتور سالم عبد الجليل وكيل وزارة الأوقاف، ورأى أن النقاب ليس فريضة، ولكن الحجاب هو الفريضة، ولا يجوز للمرأة أن تخلع حجابها في أية دولة تحت أي ظرف.
أما النقاب، فيجوز للمرأة أن تخلعه إن طلب منها هذا، للتعرف على شخصيتها في مواقف محددة؛ مثل الشهادة في المحاكم، مشيرًا إلى أن سبب قرار الرئيس الفرنسي يرجع لرفض إحدى السيدات المنتقبات خلع نقابها عند شهادتها في إحدى المحاكم الفرنسية.
وفي مقابل هذه النظرة رفض مفتي مصر الأسبق فضيلة الأستاذ الدكتور نصر فريد محمد واصل خطاب ساركوزي، وكل اجتهاد فقهي يؤيد وجهة نظره، و استند الدكتور واصل إلى أن النقاب وإن لم يكن فريضة عند جمهور الفقهاء، ولكنه فضيلة، ومن ثم فلا مجال لخلعه، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
واعتبر الدكتور واصل أن ما يحدث ما هو إلا حلقة في مسلسل الحرب على الإسلام ومظاهره، وأن الحملة الفرنسية على النقاب تتناقض مع شعارات الحرية والمساواة التي ترفعها فرنسا، بعد أن سبق وأصدرت قرارا بحظر ارتداء الحجاب داخل المدارس والمؤسسات الفرنسي، بما يتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان التي تعطي لكل شخص الحرية في ارتداء ملبسه، أو اختيار الرموز الدينية الخاصة به، وأن هناك ازدواجية في المعايير، فإن فرنسا لن تستطيع أن تتخذ موقفا من حجاب الراهبات وأن تحظر عليهم ارتداء الأزياء التي يلبسنها.
بل تخطى الدكتور واصل مجرد الاجتهاد الفقهي ليطرحا حلا للمسلمين في أوربا وليس فرنسا وحدها، بأن يطرحوا القضية على المنظمات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، حتى لو تتطلب الأمر اللجوء لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية لفضح هذا العداء غير المبرر للإسلام.
ولكنه في ذات الوقت أفتى بأنه إن أغلقت الأبواب أمام مسلمي فرنسا أن يتعاملوا مع المسألة في حكم المضطر، كما قال تعالى: (مَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة/173]، وذلك في حال إجبار الحكومة المسلمات على خلع النقاب.
ومتفقا مع وجهة نظر الدكتور نصر فريد واصل رفض الداعية الإسلامي وعضو مجلس الشورى السعودي الدكتور الشريف حاتم العوني خطاب ساركوزي حول النقاب، واعتبره نوعا من العنف والإرهاب ضد المرأة المسلمة بفرنسا، وأنه نوع من الجهل لقيم الإسلام وتعاليمه، وأن المشكلة تكمن في فهم الغربيين للتقدم والعصرنة، وأن الإسلام لا يرى أن عصرنة المرأة وتقدمها في خلع حجابها، بل في التزامها بأخلاق دينها.
كما أصدر الدكتور يوسف الأحمد الأستاذ بكلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود فتوى بحرمة خلع النقاب في فرنسا، وتجميد العلاقات مع فرنسا لتطاول رئيسها على إحدى شعائر الإسلام، ورأى أن استبعاد المرأة ليس حجابها، ولكنه استعمالها في المراقص والملاهي ودور البغاء وغيرها مما هو مشتهر في فرنسا، وأن الواجب التصدي لمثل هذا الكلام؛ لإهانته للإسلام والمسلمين.
ربما كانت فتاوى العلماء تقدم أنماطا من الاجتهاد في التعامل مع هذه القضية، فالاتجاه الأول اعتبر سلطة الدولة غير المسلمة حتى على المسلمين فيما ليس فريضة مقطوع بوجوبها كالنقاب، وأنه يجب عليهم الطاعة.
بينما رأى اتجاه آخر التصعيد ضد هذه الحملة من باب المقاومة واعتبار ذلك تطاولا على الإسلام والمسلمين.
واتجاه ثالث تمثل في فتوى الدكتور نصر فريد واصل في تحديده لمكانة النقاب من الأحكام الشرعية، وأنه فضيلة؛ لكن هذا لا يتيح للدولة غير المسلمة أن تطالب بخلعه، وأنه يجب على المسلمين اتخاذ الوسائل القانونية لمحاربة هذا الرأي، وتصعيد ضده بالوسائل السلمية، فإن فشلت المحاولات، فالتعامل مع خلع النقاب إنما هو من باب الاضطرار وليس من باب الرضا.
ويمثل الاتجاه الثالث نمطا جيدا في التعاطي مع المستجدات الفقهية وكيفية تعامل الفقيه معها.