فقهيةقضايا معاصرة

تعطيل الحج بسبب إنفلونزا الخنازير

نوضح في هذا المقال رأي الفقهاء في تعطيل الحج بسبب إنفلونزا الخنازير

  • د. مسعود صبري

بعدما أعلنت منظمة الصحة العالمية أن مرض (إنفلونزا الخنازير) أضحى وباء عالميا أعاد التساؤل الذي ظهر قبل هذا الإعلان نفسه: هل يجوز تعطيل الحج أو العمرة هذا خشية انتشار هذا الوباء بين المسلمين، مما يسبب أضرارا جمة، خاصة في تجمع ضخم يضم ملايين البشر كما في تجمع المسلمين للحج؟ وكيف ينظر الإسلام إلى مثل هذه الدعوة التي تمنع شعيرة من ناحية، ولكنها تجنب المسلمين انتشار طاعون ينذر بالخطر من ناحية أخرى؟ وكيف ينظر فقهاء العصر إلى مثل هذا الأمر المستحدث؟

ربما كعادة أية مسألة مستحدثة أن يختلف حولها الفقهاء بين من يبيح ومن يحرم وبين من يضع شروطا لهذا الرأي أو ذاك، ولكن الأهم هنا هو النظر إلى طبيعة الاجتهاد الفقهي، وكيف يتعاطى الفقهاء مع مثل هذه المستجدات؟

كان لافتا للنظر مباشرة عدد من الفقهاء الفتوى مع وضع الاحتياطات التي تسند رأيهم الفقهي، فهناك فريق رافض لمنع الحج؛ معللا أن أداء الشعيرة الثابتة أمر واجب، أما الإصابة بالمرض وانتشاره، فهو أمر مظنون، والثابت مقدم على الظن. كما قال بذلك العلامة الموريتاني الشيخ محمد الحسن ولد الددو عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وغيره.

بينما أفتى فريق بجواز منع الحج والعمرة، بل والصلوات في المساجد، وكل ما فيه تجمع للمسلمين؛ بناء على أن صحة الإنسان مقدمة على أداء الشعيرة، وأن هذا لا يعني تعطيل الحج مطلقا، ولكنه تعطيل مؤقت حتى لا تكون العبادة سببا في هلاك الناس.

وتنبه فريق ثالث إلى عدم المسارعة في الإفتاء في تلك النازلة الكبيرة برأي واجتهاد فردي، بل دعا أن يكون الأمر باجتهاد جماعي، وأن تخرج فتوى موحدة في مثل هذا الأمر، ولا يحق أن تتوزع الآراء الفقهية وتختلف في مثل هذا الأمر الجلل.. وممن قال بهذا مفتي مصر الدكتور علي جمعة، والدكتور محمد رأفت عثمان عضو مجمع البحوث الإسلامية، كما توقف شيخ الأزهر ولم يبد رأيا.

وجنح بعض الفقهاء إلى أن هذه الفتوى لا تقوم على الاجتهاد الفقهي وليست بحاجة إليه في المقام الأول، إنما هي فتوى طبية، يجب الرجوع فيها إلى الأطباء ليقولوا كلمتهم الصادقة، وبعدها يجيء النظر الفقهي الذي يأتي تبعا للفتوى الصحية. وهو بعد جديد في الاجتهاد الفقهي نص عليه علماء الأصول في حديثهم عن الإفتاء من الرجوع إلى أهل الذكر ومشاورة أهل الاختصاص. وقد نص على ذلك الفقيه المغربي أحمد الريسوني، والدكتور عبد الفتاح الشيخ وعدد من فقهاء مجمع البحوث الإسلامية بمصر.

و ممن قال بجواز تأجيل الحج والعمرة إن غلب على الظن انتشار المرض: الشيخ على أبو الحسن مستشار شيخ الأزهر لشئون الفتوى، والشيخ سالم محمد سالم أمين عام لجنة الفتوى بالأزهر، والدكتور عبد الفتاح الشيخ رئيس اللجنة الفقهية بمجمع البحوث الإسلامية، والدكتور حامد أبو طالب عضو مجمع البحوث الإسلامية، و  الدكتورة سعاد صالح أستاذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر، والدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه بجامعة الأزهر.

وجنح بعض الفقهاء إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع الإصابة بالمرض مع عدم منع الحج، كما ذهب إلى هذا الشيخ عبد الرزاق المؤنس من علماء سوريا.

كما قدم بعض الفقهاء حلولا فيمن هو مصاب بالمرض أن ينيب عنه غيره ليذهب مكانه ويحج عنه، وبذلك يسقط عنه أداء الفريضة، حتى لو شفي فيما بعد، لم يكن عليه الحج مرة أخرى، وإن كانت المسألة خلافية، ولكن هذا هو الراجح كما يذهب لذلك الشيخ جمال قطب الرئيس الأسبق للجنة الفتوى بالجامع الأزهر.

ومنع فريق تعطيل الحج إلا إذا تم التأكد من انتشار المرض بين الحجيج والمعتمرين، وممن قال بهذا الفقيه الموريتاني الدكتور عبد الله الفقيه.

ورأى البعض أن جواز المنع راجع لما تقرره المملكة العربية السعودية من خلال علمائها وأطبائها، كما يجوز إذا قررت دولة معينة منع سفر مواطنيها للحج، وإلى هذا الرأي ذهب الشيخ نوح سليمان مفتي المملكة الأردنية. 

أدلة المجيزين:

استند من أجاز تأجيل أداء الحج بسبب مرض إنفلونز الخنازير إلى عدد من الأدلة الشرعية أهمها: ما ورد من حديث أسامة بن زيد – رضي الله عنه-  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها فلا تخرجوا، فرارا منه.” رواه البخاري ومسلم.

ولما خرج عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- إلى أرض الشام، وعلم أن بها طاعونا، فاستشار المهاجرين والأنصار، واتفقت كلمتهم على الرجوع،  فقال أبوعبيدة بن الجراح : أفرارا من قدر الله ؟ فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان ، إحداهما خصبة ، والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف – وكان متغيبا في بعض حاجته – فقال : إن عندي في هذا علما ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ” قال : فحمد الله عمر ثم انصرف. متفق عليه.

كما استندوا إلى اعتبار المقاصد الشرعية، وكون حفظ النفوس واحد من الضروريات الخمس، فمن حيث المبدأ لا شك أن كل خطر يتهدد الناس وصحتهم وسلامتهم يقتضي ويجوز شرعا اتخاذ ما يمنع ذلك وما يحفظ حياة الناس.

وكذلك استنادا إلى بعض القواعد الفقهية المتعلقة بوقوع الضرر، منها: (درء المفاسد مقدم على جلب المنافع)، و (لا ضرر ولا ضرار)، و (الضرر مرفوع).

وأنه في مثل هذه الحالة يجوز الأخذ بالاحتياط، كما يرجح هنا القول باعتبار أن الحج واجب على التراخي وليس على الفور.  ومن ثم يمكن تأجيل الفريضة إلى العام المقبل لحين زوال الخطر، وأنه يأخذ حكم “الإحصار الشرعي” أي الذي يريد تأدية عبادة ولا يصل إليها لعذر خارج عن إرادته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة عام ثمان من الهجرة ولم يحج إلا في العام العاشر، فدل ذلك على جواز التأخير لعذر شرعي.

وأن الذهاب إلى الحج بما يظن معه وقوع الضرر فيه أذى للمسلمين، وقد قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.

 

أدلة المانعين:

أن مكة وما حولها لا يوجد بها هذا المرض، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى فقط عن القدوم على أرض الطاعون أو الفرار منها، وكل ذلك غير متحقق في حالة إنفلونزا الخنازير اليوم، فهي لا توجد بمكة ولا بالمنطقة عموما، وحتى لو ظهرت إنفلونزا الخنازير بمكة المكرمة، ما كان لأحد أن يطالب بتعطيل ركن من أركان الإسلام.

أن المسارعة والمناداة المتعجلة بوقف الحج أو العمرة هكذا دون وضع ضوابط وقيود أمر ليس سديدا.

أن الخوف من هذا الداء لا ينبغي أن يحول دون ما هو مطلوب من العبادات على وجه الاجتماع، وذلك ما لم يتطور الأمر إلى أن يكون وباءً.

أن هذا الأمر لا يعالج بفتوى ولا يحق لأي فتوى أن تطوق النص القرآني في فريضة الحج كما هو معروف، وإنما يمكن أن تتعاون جميع الجهود لاتخاذ الاحتياطات المناسبة للتحصن من وباء إنفلونزا الخنازير، وإن هذا التعاون يجب أن يكون عن طريق المصحات وتعاون الدول التي ترسل الحجاج لأداء المناسك بوجود شهادة صحية صحيحة تثبت سلامة الإنسان الذي يريد الحج من هذا الوباء

أن السعودية فيها من الحماية الربانية والاحتياطات الصحية ما يجعل نقل العدوى فيها قليلا . كما أن المسلمين لا يأكلون الخنزير ولا يتعاطون معه في التربية والاتصال البدني، فهم أبعد الناس عن هذا الوباء التزاما منهم بالشريعة الإسلامية.

تعقيب:

ولسنا هنا بصدد ترجيح رأي على آخر، خاصة أن المسألة ليست باليسر الذي يمكن معه ترجيح رأي عن آخر، كما أن المقصود هنا ليس مناقشة الأدلة بقدر وضع بعض الإضاءات، من أهمها:

أن الأمور الذي يتعلق بالعمرة أهون من أمر الحج، فالعمرة ليس لها توقيت زماني، فيجوز أداؤها في أي وقت، وإذا اتخذت السلطات في المملكة أو غيرها قرارا بالمنع؛ أخذا بالاحتياط، وسدا للذريعة فلا بأس به.

أن الواجب على الدول أن تكلف من يقوم بدراسة هذا الأمر دراسة مستوعبة محايدة، لا تخضع لأية جهة معينة، خاصة ما يقال من أن هناك تزايدا في طرح خطر مرض إنفلونزا الخنازير، وأن هناك من المؤسسات داخل كل دولة لها مصالح في تخويف البشر منه، كنوع من معالجة كساد بعض المجالات الاقتصادية، خاصة في ظل الركود الاقتصادي الذي تعيشه بعض الدول، مستشهدين بأن هذه الحملة الإعلامية لم تشهد في وباء الكوليرا، ولا إنفلونزا الطيور ولا غيرهما، مما يستدعي قيام جهات محايدة منصفة تخرج برأي صحيح يمكن بناء عليه اتخاذ رأي طبي وفقهي.

أنه لا يصح التعميم إلا عند الحاجة للجوء إليه، فمبادرة القول بالمنع المطلق ربما جانبه بعض الصواب، فإن كان هناك منع جزئي له مبرراته فلا بأس به، وأن المنع الكلي من تعطيل الشعيرة يجب أن يخضع لمبررات ودواعي تجعل القول بالمنع المطلق رأي له حظ من النظر.

أن مثل هذه النوازل يجب فيها اعتماد الآراء الفقهية من خلال المجامع والمؤسسات الفقهية المعتبرة، لا أن تكون الآراء الفردية هي السائدة فيها، وفي الظن أنه لم يجنح الفقهاء المعاصرون في إدارة الاجتهاد الجماعي في النوازل حتى الآن بصورة يطمأن إليها، فمازالت الآراء الفردية هي السابقة في الميدان، مع خطورتها خاصة في مثل تلك النوازل المدلهمة.

للاطلاع على مقالات أخرى لها علاقة بتعطيل الحج بسبب إنفلونزا الخنازير:

فتوى بشأن أداء العبادات الجماعية مع انتشار فيروس كورونا

انظر: مجمع البحوث الإسلامية

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى