- د. مسعود صبري
تنادت أصوات في عدد من الدول العربية بجواز قيام الحكومات بهدم بعض المساجد، وقوبل هذا الأمر بالإنكار الشديد من قبل عدد من الفقهاء المعاصرين، باعتبار أن المساجد خط أحمر لا يجوز تعديه ولو من سلطة الدولة، بينما رأت بعض الأصوات أن الأمر ليس بهذا الشكل الذي يصوره الفريق الذي يتبنى التحريم، وأن الأمر خاضع للمصالح المعتبرة، والمفاسد التي يجب دفعها، والموازنة بين الأمور.
ولعل مناقشة جواز هدم المساجد من قبل الدولة لمصلحة ما ليس بالأمر الهين، وخاصة أن هناك أقوالا في بعض المذاهب تجعل هدم المساجد من وسائل ردة المسلم عن الإسلام، كما ذكر صاحب كتاب البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار.
واختلاف الفقهاء في السماح للدولة بهدم المساجد ليس اختلافا كبيرا، فالأصوات التي تجيز هدم الدولة للمساجد قليلة نادرة، بينما يرى جمهور الفقهاء المعاصرين حرمة هدم المساجد من قبل الدولة لتعطيلها، وبهذا قال الدكتور صبري عبد الرؤوف أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، والدكتور محمد كمال إمام أستاذ ورئيس قسم الشريعة بجامعة الإسكندرية، والدكتور عبد الحي الفرماوي، الأستاذ بجامعة الأزهر، والدكتور عبد الحي عزب الأستاذ بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، و الشيخ محمد الجزار أمين لجنة الفتوى بالجامع الأزهر سابقا.
أدلة المجيزين
واستند من قال بالجواز -وهم من المؤسسة الأزهرية- أنه إن تبين للدولة أن جماعة من الناس تسيء استعمال المسجد، فيجوز لها هدمها، لأن هذا يتعلق بأمن المجتمع، والدولة مسئولة عنه، ولا يجوز استعمال المساجد لتهديد أمن المجتمع، وأن المسألة خاضعة للمصالح والمفاسد.
و أنه إذا خرج المسجد عن المقصد الذي أقيم له يكون الأمر مجرد مبنى لا يساوي إلا ما وضع فيه من مواد بناء، وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).
أدلة المانعين
ولكن جمهور الفقهاء المعاصرين الذين يرون حرمة هدم المساجد، وأنه لا يحق للدولة أن تهدم المساجد لسوء استعمالها حتى لو كان من قبل بعض الجماعات المتطرفة، فقد استندوا إلى عدة أمور أهمها:
أن أحدا من الفقهاء لم يقل بجواز هدم المساجد لتحقيق الأمن، فالأمن يمكن أن يتحقق بدون هدم المساجد، وذلك أن المساجد تأخذ أحكام الوقف، ولا يجوز تغيير الوقف إلا بشروط عشرة ذكرها الفقهاء، وأنه قد نص على أنه لا يجوز تغيير شرط الواقف، لأن شرطه كشرط الشارع.
أن القول بجواز هدم المساجد خشية بعض الأنشطة يعني أنه يجوز هدم الجامعات والكليات والبيوت والجمعيات التي تتساوى مع بعض المساجد التي يراد هدمها، وفي ذلك فتح لباب الشر، بل الأولى معالجة الخطأ دون تعد على بيوت الله تعالى.
أن المساجد لا تنحصر وظيفتها على أداء الصلاة فحسب، فالأرض كلها يجوز الصلاة عليها، وأن المسجد في الإسلام له وظائف اجتماعية وعلمية وسياسية.
أن الإقدام على هدم بيوت الله هو هدم ركن من أركان الإسلام، وجريمة في حق الإسلام، وكبيرة من الكبائر، كما أن هدمه يؤدي إلى فتنة كبيرة في الأمة.
كما أن الأصل في دور العبادة أن تكون مفتوحة للشعائر، وجميع الناس يعرضون فيها أفكارهم ومشاكلهم وقضاياهم؛ حيث إن المسجد في الإسلام هو دار العبادة والمحكمة، وهو المشفى النفسي، وهو مكان حل المشاكل وقضاء المصالح وعقد المناسبات؛ ولذلك ينبغي ألا يحجر على هذه المساجد بأي حال من الأحوال.
وأوضح الفقهاء المحرمون أنه لا يجوز هدم المسجد إلا إذا وجدت مصلحة عامة كاعتراض طريق مثلا ولا يمكن تحويله إلى جهة أخرى دون المرور بأرض المسجد أو دور العبادة.
و أن غلق المسجد يجوز لأسباب أن يكون آيلا للسقوط من أجل إعادة بنائه، أو في حالة عدم استطاعة الدولة منع استخدامه كفندق للنوم ونحو ذلك، وأن الإغلاق يجب أن يكون مؤقتا.
ولعل مسألة هدم المسجد تجعلنا نفكر فيها من زاوية سلطة الدولة فيما يتعلق بدور العبادة، وهو أمر غاية في الخطورة، وذلك أن دور الدولة هو تهيئة بيوت الله تعالى لتقوم بوظائفها المتعددة، وأن تاريخ السلطة في الدولة الإسلامية بالنسبة للمساجد اقتصر على هذا الدور، وأن الإنفاق على المساجد لم يكن من الدولة، وإنما كان من الأوقاف، ولما أصبحت للمساجد وزارة أسيء استعمال هذا الحق في بعض الدول، وأن اختيار المجتمع للأئمة الراسخين في العلم ليقومون بدور الدعوة إلى الله حفظ للمسجد والمجتمع أمنه، وأنه حين يكون المسجد غير خاضع لجهة إلا من خلال الخدمة فحسب، فإنه سيكون عاملا من عوامل القضاء على الاضطراب الاجتماعي وتحقيق الأمن المنشود في المجتمع، من خلال مناظرة الحجة بالحجة والدليل بالدليل، لا من خلال هدم المساجد، مما يترتب عليه ضرر على دين الناس ودنياهم معا، وأنه ليس من الحكمة أن يتسارع بعض المفتين ليجيزوا للدولة هدم المساجد بحجج واهية ظانين أنهم يحسنون صنعا، بل الأولى أن تبين الفقهاء للسلطة الواجب عليهم تجاه بيوت الله، مع معالجة ما قد يطرأ من مشكلات في بعض بالحسنى واستعمال الحق القانوني في محاسبة من يخالفون الشرع لا الأهواء.