فقهيةقضايا معاصرة

التسعير الإلزامي من الحكومة

  • د. مسعود صبري

مع ما يعيشه الناس من غلاء للأسعار في كثير من الدول العربية، وخاصة الدول التي ينتشر فيها الفقر مثل مصر، خرجت فتاوى تنادي بوجوب تدخل الحكومة بالتسعير الإجباري للسلع الاستراتيجية، لحماية مصالح المواطنين وللحيلولة دون حدوث ثورات شعبية، من باب الحفاظ على الأمن الاجتماعي، وعدم تهديد مصالح الناس البسطاء.

فقد أفتى الدكتور علي جمعة مفتي مصر بوجوب تدخل الحكومة ووضع تسعير للسلع الأساسية؛ لمحاربة احتكار عدد من رجال الأعمال لبعض السلع.

وبنى الدكتور علي جمعة وجوب تدخل الحكومة في وضع تسعير إجباري للسلع الاستراتيحية والأساسية على عدد من الأمور، أهمها: أن احتكار بعض السلع تهديد لمصالح الوطن العليا، وفي هذه الحالة، فإن الشرع يبيح لولي الأمر أن يتدخل بوضع تسعير يجبر عليه الجميع ولا يجوز مخالفته، ويكون من حق ولي الأمر محاسبته كل من يخالفه، حفاظا على مصالح الناس، حتى لا يتحولوا إلى متسولين. وهو مستند لما يعتبره الفقهاء أنه من حق ولي الأمر تقييد الأمر المباح، فإن كان التسعير الأصل فيه عدمه؛ فإنه يجوز عند الحاجة والضرورة.

هذه الفتوى التي اعتبرها البعض مزعجة لعدد من رجال الأعمال بمصر لاقت موقفا متباينا، بين من يرفض فتوى الدكتور علي جمعة، كالشيخ محمد الزعبي أحد الدعاة بمصر، والشيخ محمد حسان الداعية الشهير، وآخرون.

في حين وافق عدد آخر على فتوى الدكتور علي جمعة، واعتبرها فتوى سديدة تقوم على مصالح الناس في المجتمع، وتمنع أساطين الاحتكار في مصر، وممن وافق على هذه الفتوى الشيخ محمود عاشور عضو مجمع البحوث الإسلامية ووكيل الأزهر سابقا، والشيخ يوسف البدري.

واستند من رفض فتوى الدكتور علي جمعة إلى رفض الرسول للتسعير، فيما عن أنس بن مالك، قال: غلا السعر بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله، غلا السعر، فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، إني لأرجو أن ألقى الله، عز وجل، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال. أحمد وأبو داود وابن ماجة.

ولكن العجيب في رفض الفتوى هو ما قاله الشيخ محمد الزغبي أن اعتبار الدعوة إلى التسعير هو عودة لزمن الشيوعية، وإحياء لقيم الاشتراكية التي تتعارض مع قيم الإسلام.

أما من وافق فتوى الدكتور جمعة بوجوب التسعير، فهو يرى صحتها استنادا إلى أن الفتوى جاءت متوائمة مع واقع الناس، وأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير كان لصلاح المجتمع الذي يعيش فيه الصحابة، أما عصرنا فماتت فيه الضمائر الحية، وانتشر فيه الغش والتدليس؛ فيحق لولي الأمر التدخل في التسعير.

كما يرى أصحاب هذا الرأي أن المسألة خلافية على ثلاثة آراء، فمنهم من يرى حرمة التسعير المطلقة؛ استنادا للحديث، ومنهم من يرى الجواز المطلق، ومنهم من يرى حرمته إن كانت أسعار السلع معتدلة، ويجيزها إن انتشر الغلاء على الناس، وواقع الناس يحتم الرأي الأخير بعد انتشار الغلاء.

و يبدو أن مشكلة الإفتاء في مصر مازالت قائمة، فتدخل الدعاة في الفتوى، وإطلاق الأحكام دون الرجوع إلى آراء الفقهاء يمثل مشكلة، واتهام مفت بأنه اشتراكي ويحيي مبادئ الشيوعية لأجل القول بالتسعير هو نوع من الجهل بآراء الفقهاء في المسألة، فتدخل الحكومة للتسعير مختلف فيه، والراجح أنه جائز إن استغل التجار حاجة الناس، وليس من الحكمة أو الشرع أن تدخل الحكومة لكبار التجار يتلاعبون بأرزاق الناس بحجة أنه لا يجوز التسعير، وما ذهب إليه مفتي مصر هو ما ارتآه عدد من كبار الفقهاء كالعلامة القرضاوي وغيره، الذي فسر الحديث على نحوين، الأول: أنه إذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء أو لكثرة الخلق (إشارة إلى قانون العرض والطلب) فهذا إلى الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.
أما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها -مع ضرورة الناس إليها- إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، والتسعير هنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به.

وتبقى مشكلة الإفتاء حين تكون بغير ضابط أو وعي؛ تمثل أزمة حقيقية في فكر وحياة الأمة.

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى