- د. مسعود صبري
ما زالت مسألة (الاختلاط) تلقي بظلالها على اجتهادات المفتين المعاصرين، وربما ظن البعض أن هذه من المسائل التي عفا عليها الزمن، وأننا – ونحن في زمن العولمة والانفتاح الاجتماعي- ما ينبغي أن نفتح مثل هذه المسائل التي ربما تضحك غيرنا علينا، في حين يرى البعض الآخر أنه ما يجب علينا أن نقع أسارى تحت ضغوط الحضارة الغالبة والتي أتت بعادات ليست من عاداتنا، بل يجب علينا في وقتنا هذا أكثر منه أن نكون أشد تمسكا بديننا، وأن نأخذ بالعزائم أكثر من الرخص، وأن ممارسة الناس لفعل ما ليس دليلا على أنه مباح، أو يجعلنا نضغط لظروف الحياة والزمن.
وقد أثار الموضوع فضيلة العلامة القرضاوي في حلقة الشريعة والحياة يوم الأحد 1/6/2008، وأفتى بأن كلمة “الاختلاط” من المصطلحات الدخيلة على تراثنا الإسلامي.
وقد تباينت آراء الفقهاء في مسألة الاختلاط، فيذهب فريق إلى تحريمه، على رأسهم: فضيلة الشيخ ابن باز – رحمه الله-، والشيخ ابن العثيمين- رحمه الله-، والشيخ محمد صالح المنجد، والشيخ عبد الله بن جبرين وغيرهم.
ومن المجيزين الاختلاط بشروط الالتزام بآداب الإسلام في اللقاء والحديث والمعاملة، وأن تكون هناك ضرورة، وعلى رأسهم العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ عطية صقر، والدكتور عبد الكريم زيدان، والدكتور علي جمعة مفتي مصر، والمستشار فيصل مولوي وغيرهم.
وقد استند القائلون بحرمة الاختلاط إلى عدد من الأدلة الشرعية هي:
- أن الله طلب الحديث للنساء من وراء حجاب، فقال سبحانه:{وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} الأحزاب 53.
- كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتخصيص باب للنساء في المسجد، حتى لا يكون هناك اختلاط بين الرجال والنساء، فعن أم سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ الْقَوْمِ.” رواه البخاري.
- ومن الأدلة ما ورد عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ قَالَ نَافِعٌ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ.“ رواه أبو داود و جعل النبي صلى الله عليه وسلم خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها خشية أن يظهر من الرجال عورة، وخاصة أنهم لم يكونوا يلبسون السراويل، فعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : “خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا.” رواه مسلم
- وقد روى أَبو أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ (تَسِرْن وسط الطريق) عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ. رواه أبو داود.
أدلة الجواز
واستند من قال إن الاختلاط مباح بشروط، على عدد من الأدلة الشرعية، أهمها:
- أن المرأة كانت تحضر صلاة الجمعة وصلوات الجماعة مع المسلمين بالمسجد في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن ينكر ذلك.
- كما ثبت في الصحيح أيضا أن النساء كن يشهدن صلاة العيد، حتى تخرج الحيض وذوات الخدور ليشهدن بركة المسلمين. فقد روى مسلم: عن أم عطية قالت: ” كنا نؤمر بالخروج في العيدين، والمخبأة والبكر”.
- وكانت النساء يحضرن مع الصحابة دروس العلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأين غلبة الرجال عليهن في الدرس، فقلنا: يا رسول الله، قد غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك.” فوعدهن يومًا فلقيهن فيه ووعظهن وأمرهن. رواه البخاري.
- بل كانت النساء تشاركن الرجال في الحروب، عن أم عطية قالت: “غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.” رواه مسلم
- بل كانت المرأة تشارك الرجل أيضا في المنشاط الاجتماعية، ولما خطب عمر عن مهر المرأة ،قامت المرأة تعترض، فقال عمر: أصابت المرأة، وأخطأ عمر.
وكانت الشِّفاء بنت عبد الله العدوية محتسـبة على السـوق في زمن عمر بن الخطاب، ومن لوازم ذلك مخالطة الرجال. - كما يستند المجيزون على عدد من آيات القرآن، منها ما حدث بين موسى –عليه السلام- والفتاتين ابنتي الرجل الصالح الذي سقى لهما، ودار بينهما حديث أولا، ثم لما عادت الفتاة إلى موسى – عليه السلام- كلمها أيضا، وسار معها حتى وصل لأبيها.
- ومنه حديث زكريا- عليه السلام- مع مريم – رضي الله عنها، ومن ذلك قصة بلقيس ملكة سبأ مع نبي الله سليمان عليه السلام وغير ذلك من الشواهد القرآنية والنبوية التي لا تمنع المشاركة والمخالطة بين الرجال والنساء.
وسبب الخلاف هو منهجية النظر إلى النصوص، فالفريق المحرم يعتبر سد الذرائع، ويجعل كل ما يدل على الإباحة هو من باب الاستثناء على القاعدة، بينما يرى الفريق الآخر أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن المنع إنما يكون استثناء، وعلى كل، فكلا الفريقين يرى أن هناك حالات يجوز فيها الاختلاط، وهناك حالات يحرم فيها، مع مذهب التضييق، أو مذهب التيسير.