- د. مسعود صبري
يعد مفهوم الجهاد من أكثر المفاهيم التي أصابها الخلل والدخن في دلالاته، ففي الوقت التي تسعى فيه بعض الدول الغربية إلى إلغاء مفهوم الجهاد من قاموس المسلمين، وحذفه وما يتعلق به من غزوات في مناهج التدريس، نرى اعوجاجا في فهمه على الجانب الآخر، من اعتبار الاعتداءات على سفارات الدول الغربية في الدول الإسلامية نوعا من الجهاد في فهم من يمارسون هذه الأعمال العنيفة، مما يستدعي إزالة الشبهات عند كل من الفريقين برؤية وسطية تنبني على الدليل العلمي وتضع الأمور في نصابها دون إفراط أو تفريط.
وقد اعتبر عدد من الفقهاء أن تفجير سفارات الدول الأجنبية في الدول الإسلامية حراما شرعا، ومن هؤلاء العلماء: العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، و الدكتور محمد رأفت عثمان عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، والدكتور عبد الله بن سليمان المنيع من علماء السعودية، والشيخ عبد الله بن بيه الفقيه الموريتاني وعضو المجامع الفقهية، والشيخ الفقيه عبد الله بن جبرين، والشيخ سفر الحوالي، والشيخ سلمان العودة، و الدكتور خالد بن علي المشيقح أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود ،والشيخ الدكتور سعود بن عبد الله الفنيسان عميد كلية الشريعة سابقاً،و الدكتور. عبد الله بن وكيل الشيخ أستاذ الحديث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، و والدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل أستاذ العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، و الشيخ هاني بن عبد الله الجبير القاضي بالمحكمة الكبرى بجدة و الدكتور محمد علي الزغول عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة مؤتة بالأردن ،و المستشار فيصل مولوي نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والدكتور صلاح سلطان عضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث وعدد كبير من فقهاء الأمة.
وقد اعتبر هؤلاء العلماء أن تفجيرات السفارات وغيرها من حوادث التفجير في الدول الإسلامية ولو استهدفت غير المسلمين هي نوع من الإفساد في الأرض الذي نهى عنه الله تعالى في كتابه، كما قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) الأعراف: 56، كما أنه نوع من نقض العهد الذي وقعته الدول الإسلامية مع غيرها وتعهدت به أمان الداخلين إلى ديارها، وأن يكون في مأمن على نفسه وماله، مما يتوجب على الدولة حماية هؤلاء وفاء بالعهد، كما قال سبحانه : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) الإسراء: 34.
وذكر الفقهاء المعاصرون أنه ليس هناك سند شرعي لمثل هذه التفجيرات، ولا يمكن اعتبارها من الجهاد في سبيل الله، واعتبارها جهادا هو نوع من الجهل بأحكام الشريعة، وأن الاعتداء إنما يكون ردا على اعتداء من قبل الدول الأجنبية إن كانت تحتل ديارنا؛ فيجب الجهاد ساعتها.
كما أن النية الصالحة وحدها غير كافية لاعتبار صحة الفعل؛ لأنه مع صلاح النية فقد جاء الفعل مخالف لأوامر الشرع الذي أمر بحفظ النفس البشرية بعيدا عن معتقدها. و أن الإسلام اعتبر قتل النفس البشرية بغير حق من أكبر الجرائم بعد الشرك بالله، وقرر مع كتب السماء: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]
كما استند الفقهاء المحرمون لتلك التفجيرات إلى أن حماية السفراء والرسل أمر يوجبه الشرع، خاصة أن هناك اتفاقا دوليا يجمع بين الدول في إقامة مثل هذه السفارات، كما أنه توجد مصلحة شرعية في الإبقاء على السفارات الأجنبية.
بل يرون أنه لو كانت هناك حالة حرب بين دولة مسلمة ودولة أخرى وسمح لسفيرها أن يوجد في الدولة الإسلامية ويتحرك على أرضها فلا يجوز شرعا التعرض له بسوء، بل لو انتهت مدته فلابد من حماية حتى يصل مأمنه، استنادا لقول الله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) التوبة: 6. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بحرمة قتال السفراء، كما ورد عن نعيم بن مسعود قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب، قال للرسولين: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما. أخرجه أحمد وأبو داود..
ورأى الفقهاء أنه يجب عقوبة من يقوم بتلك التفجيرات، ومنهم من اعتبر فعلهم من باب الحرابة، فيقام عليه حد الحرابة، ومنهم من رأى أن عقوبتهم تخضع للعقوبات التعزيرية التي يراها أولياء الأمور.
ومع هذا التشديد من الفقهاء لحرمة الدماء والاعتداء، فإننا ندرك قيمة هذا الإسلام العظيم بتشريعاته التي تحمي بني الإنسان، في الوقت الذي تمارس حكومات ودول كبرى أفظع الاعتداءات على دول إسلامية بأكملها دون أن يخرج فقهاء هذه الدول بمجرد فتوى تحريم الدم المسلم، مما يجعل المسلم أكثر تمسكا بدينه وعقيدته.