فقهيةقضايا معاصرة

حكم سماع الغناء

  • د. مسعود صبري

يعد موضوع (الاستماع إلى الغناء) من أكثر الموضوعات الفقهية جدا في تاريخ المسلمين، حتى إنها أخذت حيزا كبيرا في التراث الفقهي قديما وحديثا، بل عمت البلوى بالغناء والموسيقى في كل بيت، وتباينت مواقف العلماء منها تباينا شاسعا، و لكنه كما الشأن في كثير من المسائل الفقهية، فلابد من تحرير محل النزاع أولا.

فلا خلاف بين فقهاء الإسلام قديما وحديثا في حرمة الاستماع إلى الغناء الفاحش الذي يشتمل على المحرمات كوصف الخمر والنساء، والتحريض على الرذيلة، وكذلك الغناء الفاحش الذي يختلط فيه الرجال والنساء بالصراخ و الحركات واللمسات والكلمات الإباحية ونحوها، فهذا لا خلاف في حرمته بين المسلمين، ولا يجوز لمسلم فضلا عن أن يكون عالما أن يسعى لإباحته أو التشكيك في حرمته.

كما أن هناك مواطن اتفق الفقهاء على جواز الغناء فيها بطيب الكلام، وتلك المواطن هي: الغناء في الأعياد، لما ورد في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: دخل علي أبو بكر، وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث – قالت: وليستا بمغنيتين – فقال أبو بكر رضي الله عنه: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وذلك في يوم عيد؟ فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: “يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا”. ومنها: الغناء في العرس، لحديث ابن ماجة

عن أبي الزبير عن ابن عباس  قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم. قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول ”أتيناكم أتيناكم  فحيانا وحياكم”. ولكن هذا مشروط بعدم الاختلاط السافر بين الرجال والنساء، وقد جاء في فتوى هيئة كبار العلماء بالسعودية ما نصه: “يرى المجلس: منع الغناء الذي أحدث في حفلات الزواج بما يصحبه من آلات اللهو وما يستأجر له من مغنيين ومغنيات وبآلات تكبير الصوت؛ لأن ذلك منكر محرم يجب منعه، ومعاقبة فاعله.

وما سوى القول بتحريم الغناء الفاحش، وجواز الغناء في الأفراح والعيدين، فقد اختلفت كلمة الفقهاء المعاصرين تبعا لاختلاف الفقهاء قديما.

آراء الفقهاء المعاصرين:

وممن ذهب إلى حرمة الغناء: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، والشيخ ابن باز – رحمه الله، والشيخ ابن العثيمين، والشيخ ابن جبرين، والشيخ محمد صالح المنجد، وجمع كبير من العلماء.

وممن قال بالجواز المشروط: الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله-، والشيخ عطية صقر، رئيس لجنة الإفتاء بالأزهر الشريف، والدكتور يوسف القرضاوي، الدكتور عبد الله بن يوسف الجديع، والدكتور علي جمعة مفتي مصر، والشيخ جاد الحق شيخ الأزهر السابق رحمه الله،  وعدد من الفقهاء المعاصرين.

وقد بين العلامة القرضاوي موقف العلماء من الغناء في غير مواطن الاتفاق، فقال: “واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافًا بينا: فمنهم من أجاز كل غناء بآلة وبغير آلة، بل اعتبره مستحبًا، ومنهم من منعه بآلة وأجازه بغير آلة، ومنهم من منعه منعًا باتًا بآلة وبغير آلة وعده حرامًا، بل ربما ارتقي به إلي درجة الكبيرة “.

  • أدلة التحريم:

وأشهر الأدلة التي استند إليها المحرومون ما يلي:

قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) لقمان:6. وقد فسر (اللهو) بأنه الغناء غير واحد من الصحابة والتابعين، منهم: ابن عباس و الحسن البصري وابن مسعود و ابن عمر و جابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومكحول وميمون بن مهران وعمرو بن شعيب وعلي بن بديمة و غيرهم.

قوله تعالى (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) الإسراء: 64. (بصوتك) أي بدعائك بالغناء والمزامير وكل داع إلى المعصية ذكره ابن كثير والطبري عن مجاهد.

و قوله تعالى (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) الفرقان: 72 . وقد فسر محمد بن الحنفية  ومجاهد و الطبري الزور بأنه الغناء.

ومن السنة: ما أخرجه البخاري تعليقا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف”. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فدل هذا الحديث على تحريم المعازف، والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها”.

ومن الأحاديث أيضا قوله صلى الله عليه و سلم: “صوتان ملعونان، صوت مزمار عند نعمة، و صوت ويل عند مصيبة” السلسلة الصحيحة 427
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ليكونن في هذه الأمة خسف، وقذف، ومسخ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا بالمعازف” السلسلة الصحيحة 2203، وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله حرم على أمتي الخمر، والميسر، والمزر، والكوبة، والقنين، وزادني صلاة الوتر.” صحيح الجامع 1708

  • أدلة القول بالجواز المشروط:

واستند من قال بجواز سماع الأغاني والموسيقى، ولكن بشروط،  ونظروا إلى أدلة التحريم من جانبين:

الأول: تأويل ما استدل به من القرآن الكريم، وأن الاحتجاج بالآيات ليس محل اتفاق، وأنه ليس قول أحد حجة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه إن وجد من قال بالتحريم فقد وجد من قال بالجواز، وقد قال ابن حزم:” ولو أن امرأ اشتري مصحفًا ليضل به عن سبيل الله ويتخذه هزوا لكان كافرًا ! فهذا هو الذي ذم الله تعالي، وما ذم قط عز وجل من اشتري لهو الحديث ليتلهي به ويروح نفسه لا ليضل عن سبيل الله تعالي. فبطل تعلقهم بقول كل من ذكرنا”.

الثاني:  تضعيف غالب الأحاديث التي ورد القول بها، أو تأويلها كالحديث الذي رواه البخاري معلقا، من أن النهي يشمل الصورة الكلية للمنهي عنه، كما أن القول باستحلال المحرم كفر، وليس مجرد تحريم، والأمر كما قال الشيخ القرضاوي:” إن النصوص التي استدل بها القائلون بالتحريم إما صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح. ولم يسلم حديث واحد مرفوع إلي رسول الله يصلح دليلاً للتحريم، وكل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية.  قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب “الأحكام”: لم يصح في التحريم شيء. وكذا قال الغزالي وابن النحوي في العمدة. وقال: ابن طاهر: لم يصح منها حرف واحد.  وقال ابن حزم: كل ما رُوي فيها باطل وموضوع. وعلى كل، فالأحاديث الواردة غير متفق على صحتها على أقل درجة.

كما  استدل المجيزون بأنه لم يقم دليل على التحريم يصح، فإن الأمر يرجع إلى الأصل في الأشياء الإباحة، وهو قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) [البقرة : 29]، وكذلك عدد من الأحاديث منها ما أخرجه البخاري بسنده عن عائشة  أن أبا بكر دخل عليها والنبي صلى الله عليه وسلم عندها يوم فطر أو أضحى وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت الأنصار يوم بعاث فقال أبو بكر مزمار الشيطان مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعهما يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وإن عيدنا هذا اليوم”. وقال المحرمون: إن الجارتين كانتا صغيرتين، وهو مردود عليه عند من يقول بالجواز، فلو كانتا صغيرتين لم يكن ينهاهما أبو بكر.

وروي ابن حزم بسنده عن ابن سيرين: أن رجلاً قدم المدينة بجوار فأتي عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه، فأمر جارية منهن فغنت، وابن عمر يسمع، فاشتراها ابن جعفر بعد مساومة، ثم جاء الرجل إلي ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، غبنت بسبعمائة درهم ! فأتي ابن عمر إلي عبد الله بن جعفر فقال له: إنه غبن بسبعمائة درهم، فإما أن تعطيها إياه، وإما أن ترد عليه بيعه، فقال: بل نعطيه إياها. قال ابن حزم: فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعي في بيع المغنية، وهذا إسناد صحيح لا تلك الأسانيد الملفقة الموضوعة

واستدلوا بما جاء عن عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم باشروا السماع بالفعل أو أقروه. وهم القوم يقتدي بهم فيهتدي. قال إمام الحرمين في النهاية، وابن أبي الدنيا: (نقل الأثبات من المؤرخين: أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات، وأن ابن عمر دخل إليه وإلي جنبه عود، فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله ؟! فناوله إياه، فتأمله ابن عمر فقال: هذا ميزان شامي ؟ قال ابن الزبير: يوزن به العقول!)

وأما التابعون فمنهم: سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر وابن حسان وخارجة بن زيد وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري.
وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية. نقله الشوكاني عن  ابن النحوي.

  • الترجيح:

والذي نحب أن ننوه إليه أن الغناء مما اختلف فيه السلف الصالح قديما، واختلف الفقهاء فيه حديثا، وسيبقى خلافيا إلى أن يقوم الناس لرب العالمين، فلا يكن الخلاف الفقهي سببا في فرقة الأمة، بل الأمر فيه سعة حسب اجتهاد كل فقيه.

كما يجب التنبيه أن من قال بالجواز وضع شروطا للجواز، فليس الجواز مطلقا، ومن ذلك أنه  يشترط شروطًا في الكلمة التي تغنَّى، وشروطًا للمؤدي وشروطًا للآلات المصاحبة للغناء، ومن أهم شروط الكلمة التي تُغَنَّى أن تكون بعيدة عن الفواحش وعن الكذب وعن إشاعة المعاصي والمخالفات الشرعية، ويشترط في المؤدّي أن يغني الرجال للرجال وأن تغني النساء للنساء، أما بالنسبة للآلات المصاحبة للغناء فقد أباح الشرع الدف، وتوسع بعض الفقهاء في غيره.

أن هناك من الأمور المستجدة التي تجعل الاجتهاد في مسألة الغناء تحتاج إلى إعادة نظر، منها: ما يعرف بالألحان المركبة من أصوات الطيور وغيرها، مع كون الفقهاء يجيزونها، لكنها في النهاية بعد التركيب تكون ألحانا موسيقية خالصة، كما دخلت الأغاني والموسيقى مجالات متعددة، تحتاج إلى إعادة نظر للخروج باجتهاد فقهي أصيل قائم على الدليل ومعرفة الواقع الجديد معرفة تمكن من صواب الاجتهاد أو تقترب منه.

 

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى