العاداتالفتاوىالفنون والآداب

اتخاذ الصور والتصوير الشمسي

  • السؤال:

في القسطلاني على البخاري ما نصه: قال ابن العربي: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقمًا فأربعة أقوال:

1- الجواز مطلقًا لظاهر حديث الباب.
2- والمنع مطلقًا حتى الرقم.
3- والتفصيل فإن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قطعت الرأس وتفرقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح.
4- والرابع إن كان مما يمتهن جاز، وإن كان معلقًا فلا. اهـ.
بالحرف.

والمسئول لجنابكم يا سيدنا نوَّر الله تعالى بكم دين الإسلام، وأزاح بكم دياجي الظلام فيما عمت به البلوى في هذه الأزمنة؛ من اتخاذ الصور المأخوذة من آلة الفوتوغراف المعروف هل يجري فيه هذا الخلاف لكونها من جملة المرقوم أم تجوز مطلقًا بلا خلاف لكونها من قبيل الصورة التي ترى في المرآة، وتوصلوا إلى حبسها حتى كأنها هي كما تقضي به المشاهدة، وقد رفعت هذه الأسئلة بعينها إلى أحد العلماء (في البلد) الحرام الشيخ أحمد خطيب بن عبد اللطيف، الجاوي منشأ والشافعي مذهبًا فأفتى بالجواز مطلقًا، وعللها بأنها من قبيل الصورة التي ترى في المرآة وتوصلوا إلى حبسها كما قدمناه، وليست من جملة المرقوم كما هو المتبادر، فحينئذ ما حكم الصور والمصور (كذا) هل كل منهما يأثم أم لا؟ فإني لم أقف على من تعرض لذلك من أرباب المذاهب المتبعة، لعدم أهليتي لهذه الصناعة، لكوني يقينًا قليل البضاعة، فأفتوا… الحقير الفقير بالجواب الشافي، ولكم الأجر من الوهاب، وأزيلوا عنا الإشكال.

  • الجواب:

إن الذي يظهر لي هو أنه لا فرق بين تصوير اليد والتصوير الشمسي في الحكم لا في اتخاذ الصور ولا في صنعتها، لأنني أرى أن علة ما ورد في ذلك من الأحاديث أمر ديني محض يتعلق بصيانة العقيدة من لوازم الشرك وشعائره، إذ لم يكن يعهد في صدر الإسلام وقبله اتخاذ العرب للصور والتماثيل إلا للعبادة كالذي كان من ذلك على الكعبة الشريفة فأزاله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. فعلى هذا يحرم ما كان فيه قصد التعظيم الديني وما كان شعارًا دينيًّا للكفار إذا قصد به التشبه بهم أو كان بحيث يظن أنه منهم أو يذكر بعبادتهم وشعائرهم. فمقصد الإسلام إزالة الشرك وشعائره والتشبه بأهله فيما كان عبادة، دون موافقتهم فيما حسن من عادة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس مثلما كان يلبس قومه. ويدل على هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بهتك الستار الذي كان فيه الصور لأن المشركين كانوا يعلقون الصور وينصبونها بتلك الهيئة، فلما جعلت منه وسادة استعملها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبالِ بالصور التي فيها لأنها غير ممنوعة لذاتها، ولا لأنها محاكاة لخلق الله تعالى. ومن يقول: إن علة تحريم التصوير واتخاذ الصور هو محاكاة خلق الله تعالى -يلزمه تحريم تصوير الشجر ولم يحرموه، وما استدل به على ذلك لا يدل عليه بل معناه أن الله تعالى يُظهر للمصورين عجزهم يوم القيامة تمهيدًا لعقابهم على مساعدة الناس بتصاويرهم على عبادة غيره. ولو صح هذا التعليل لكان التصوير الشمسي غير محرم مطلقًا لأن صاحب الآلة يظهر للناس شيئًا من النظام والسنن في خلق الله، وهو لا يحاكي بعمله ما أخذ صورته، فمثله كمثل مدير الآلة التي تحكي أصوات الناس (الفونغراف) فهذه الآلة وآلة الفوتوغراف من جنس واحد، وكل منهما يمثل أو يحكي نوعًا من أنواع المخلوقات. ولكن الآلة التي تمثل الصور والهيآت، أنفع من التي تحكي الأصوات، فإن للتصوير الشمسي -وكذا غير الشمسي- منافع في هذا الزمان كثيرة في العلوم كالطب والتشريح والتاريخ الطبيعي وفي الصناعات وفي السياسة والإدارة والحرب، وفي اللغة فإن كثيرًا من أسماء النبات والحيوان لا تعرف مسمياتها في اللغة العربية لعدم تصويرها، وكتب اللغة لا تزيد في تعريفها على كلمة نبات (م) وحيوان (م) أي معروف، وما كل معروف عند أناس يكون معروفًا عند غيرهم، ولا كل معروف في زمن يبقى معروفًا في جميع الأزمنة إلا إذا اتصلت سلسلة العلم به وكان مقرونًا بالعمل والتطبيق. ثم إن نقل الأسماء من قطر إلى آخر سهل، وقد يكون نقل المسميات متعذرًا أو عسرًا كنقل الأسد إلى القطب الشمالي أو نقل القط والدُّب الأبيض إلى خط الاستواء، ولكن نقل صور هذه المسميات سهل. فالتصوير ركن من أركان الحضارة ترتقي به العلوم والفنون والصناعات والسياسة والإدارة فلا يمكن لأمة تتركه أن تجاري الأمة التي تستعمله. ولكنه إذ استعمل في العبادات يفسدها؛ لأنه يحولها إلى وثنية.

وقد كان النهي عن اتخاذ الصور من الوصايا العشر التي كانت في ألواح موسى عليه السلام وهو نص لا يزال ثابتًا في التوراة التي في أيدي أهل الكتاب؛ لأن التوحيد الذي هو أساس دين جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يتفق مع اتخاذ الصور اتخاذًا دينيًّا. ولكن القرآن الحكيم اكتفى بإثبات التوحيد بالبراهين العقلية والكونية والأمثال التي تجعل المعنى المعقول كالشيء المرأي بالعيون الملموس بالأكف، وأوضحه بذلك وبفنون من بلاغة القول تستولي على القلوب وتحيط بالفكر والوجدان من جميع نواحيهما -فلم تبق مع هذا كله حاجة للنهي عن اتخاذ الصور والتماثيل، وإنما نهي عنها النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول جمع القرآن ووصوله إلى الناس لقرب عهدهم بالوثنية كما نهى عن زيارة القبول في أول الإسلام لمثل هذه العلة.

ثم رخص فيها لأجل العظة والعبرة، ولو كان اتخاذ الصور والتصوير الذي هو ذريعته من المحرم لذاته على الإطلاق أو لضرر فيه لا ينفك عنه مطلقًا لكان محرمًا على ألسنة جميع الأنبياء، ولما امتن الله على سليمان عليه السلام بقوله: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[١٣]﴾ [سبأ: 13]، فجعل ذلك من النعم التي يشكر الله تعالى عليها.

هذا وإن لاتخاذ الصور ضررًا في هذا العصر غير ضرره الديني وهو تقليد المسلمين للإفرنج وغيرهم في اتخاذها للزينة والتقليد. وقصد أمة التشبه بأمة تراها أرقى منها يُضعِف روابط المقلدة (بكسر اللام) ويسهل للمقلدة (بفتح اللام) طريق السيادة عليها. فينبغي للمرشدين والزعماء في الأمم الضعيفة أن يحذروها من تقليد الأمم القوية في العادات والآداب والشعائر ويجعلوا استفادتها منها خاصة بالعلوم والأعمال النافعة، وأن يأخذوا منها ما هم محتاجون إليه بقدر ما يليق بحالهم مع اتقاء لوازمه الضارة وعدم قصد التقليد فيه. ومن هذه الصور ما له تأثير في إفساد الآداب والتشويق للفواحش والمنكرات. وقد سبق بحث المنار في هذه المسألة من قبل مرارًا فيراجع في المجلدات السابقة. [1]

 

  • فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى