استشاراتالزواج

خطبها ثم قال: لا أتزوج فتاة إنترنت!!

  • السؤال:

يسعدني أن أقدم لكم هذا الموضوع الذي شغل كل المنتديات والذي كثر فيه الهرج والمرج.. فإليكم الموضوع بدون مقدمات..

جاءت إليها أمها ووجهها يتهلل بالبشر، تكاد أساريره أن تنطق فرحا، وقالت: بنيتي، لقد جاء فلان وابنه لخطبتك. ألجم الفرح الفتاة وأخرس لسانها، ونطقت عيناها ببريق السرور: الآن سيتحقق حلمي؛ أبني بيتا من السعادة، وأربي جيلا يكون قطعة مني، أربيه على ناظري، يكون عونا لي في الدنيا وذخرا لي في الآخرة.. لم تبت تلك الليلة فهي لا تحتاج النوم بعد أن تحولت أحلام نومها إلى حقائق تداعب يقظتها.

وافق أبوها على الخطبة، وتمت الرؤية الشرعية، سُرَّ بها العريس، وسُرَّتْ به، وابتدأ الجميع يوزعون بطاقات الدعوة لليلة الفرح الموعودة.

ذهب العريس إلى عمله، أخبر بعض أصحابه بأنه سيتزوج ابنة فلان، بارك له الجميع، وفي اليوم التالي جاءه أحد زملائه، وقال له: الله الله أنت إذن ستتزوج الكاتبة الفلانية التي تكتب في المنتدى الفلاني؟ نظر العريس إلى زميله متعجبا عمن يتحدث؟! وما هذا الكلام؟!
قال زميله: خطيبتك كاتبة في منتدى بالاسم الفلاني؟
– وما أدراك؟ ومَنْ أعلمك؟
– أختي تعرفها وأسرت لها بذلك، وهي تكتب باسم مستعار، أتريد أن تعرف المنتدى لتشاهد مواضيع خطيبتك؟
قال العريس والعرق يتصبب: ولم لا؟ فتح الزميل المنتدى، استخرج بالبحث جميع مواضيعها، ثم بدأ الاثنان في التصفح؛ فهاهي ترد على فلان، وتشكر فلانا، وتتناقش مع فلان، وتضحك من طرفة فلان، وهذا فلان يمدح ما تكتب ويثني على ما تقدم، وهي ترد عليه بالثناء والشكر.. احمرَّ وجه الخطيب، وخرج من المكتب واتصل ببيت خطيبته، وقال لأمها: هل تسمحين لي أن أكلم خطيبتي؟ قالت أمها: لا مانع.. أخذت البنت الهاتف وقلبها يخفق ويداها ترتجفان تخشى من سماع الكلام المعسول، أو ألا تملك القدرة على الرد وهو يحدثها عن بيت المستقبل.. لكنه فاجأها بسؤال واحد: هل أنت الكاتبة الفلانية في المنتدى الفلاني؟ قالت: نعم أنا هي، قاطع حديثها، وقال: آسف، أنا لا أتزوج فتاة إنترنت وأغلق السماعة.

حالة قد تمر يوما ما على فتى أو فتاة؛ فما موقفك بكل صدق وتجرد أنت يا أيها الرجل؟
1- أخي، ما هي نظرتك إلى فتاة الإنترنت (كما يطلق عليها)، وأقصد بها الفتاة التي تستخدم النت؟

2- هل يعني دخول الفتاة إلى الإنترنت والمنتديات خاصة ومخاطبة الجنس الآخر من خلال المواضيع والمشاركات أنها فتاة سيئة؟

3- بنظرك، هل كل فتاة تستخدم النت لا بد أن يكون لها صديق أو…؟

4- ترى ما هي بنظرك الحدود التي يجب أن تقف عندها الفتاة حتى لا يسيء استخدامها للنت أخلاقها؟

5- ما هو الخط الأحمر الذي يجب أن تقف عنده الفتاة وتقول للإنترنت: وداعا؟

6- أنت كشاب تستخدم النت وتكتب بمنتديات.. هل تسمح بمن تعول من زوجة أو أخت أو ابنة أن يستخدمن النت تحت إشرافك أو بدون إشراف أم تمنعهن؟

إخواني الأفاضل، تأكدوا أن الإجابات الصادقة لهذه الأسئلة سوف تخدم أخوات لكم بشكل كبير، فلا تترددوا بالرد عليها دون محاباة أو مجاملة، ولتضعوا أمام أعينكم مراقبة الله في كتابتكم ورأيكم.

 

  • الجواب:

أخي حيران…
أشكر لك حسن عرضك للمشكلة، فهي تنم عن بلاغة فائقة، مع عرض واقعي، يغلفه حرارة الإحساس بالمشكلة، وإن كانت هذه المشكلة لا تخصك شخصيا، فإنها لم تفقد حرارة صاحب المشكلة، مع حسن العرض.

وكم كنت أتمنى أن تستعير لك اسما غير هذا، مثل: متعلم أوغيره، فلا تتسلل إليك الحيرة، لأن عدم العلم بالشيء لا يعني دائما الحيرة، فكم من الناس يغيب عنه أشياء كثيرة، بل هذه هي طبيعة البشر.

أما عن المشكلة، فإني سأقدم للحديث فيها ببعض العرض لمحاور المناقشة التي نتجاذب فيها أطراف الحديث، عسى الله أن يوفقنا إلى الوقوف على حل للمشكلة، أو على الأقل تفهم لنا، عسى أن نهتدي أو يهتدي غيرنا إلى حلها، أو تقديم عروض عملية لها.

والمشكلة لها بعدان من حيث العرض:

الأول: المشكلة الخاصة المرسلة في الاستشارة.

الثاني: أنها تطرح عرضا عاما لموضوع، يغلب عليه أنه شائك، واسع الأطراف، متعدد الأبعاد، متشابك في محاوره.

وسأسعى إلى مناقشة الموضوع العام، وبعد الانتهاء منه، سيكون الحديث عن المشكلة الخاصة إن شاء الله.

أما عن الموضوع العام، وهو “الحديث بين الجنسين عبر الشات”، فسيكون التناول فيه على النحو التالي:

1- الكلام بين الجنسين.
2- وسيلة الكلام: الشات، وما يشتمل عليه من تنوع في الوسائل: الماسنجر- الميل– ساحات الحوار- الغرف العامة – الغرف الخاصة.
3- طبيعة الوسيلة: تستخدم فيها الكتابة فقط، أم الصوت،أم الصوت والرؤية/ رسالة أم مباشرة.
4- موضوع الكلام: الحاجة إليه / خاص أم عام.
5- مكان الحديث: غرفة خاصة / مكان عمل / نت كافيه..إلخ.
6- الدافع للكلام: حاجة عمل / صداقة / تبادل معرفي / تعليم..إلخ.

أما عن الكلام بين الجنسين، هو كأي عمل بشري، فقد خلق الله تعالى الرجل والمرأة ليعمرا الكون، فطبيعة بني آدم تتكون من رجل وامرأة، ومما لا شك فيه أنه لابد أن يكون هناك تعامل بين الجنسين، وهذه طبيعة بشرية، جاء الإسلام، فلم يمنعها، ولكنه هذبها، وأحاطها بما يحفظها مما قد يشوبها فيخرجها عن طبيعتها الموضوعة له، أو توقعها في خطأ لا تحمد عقباه، وقدم الزواج كوسيلة للمعايشة الكلية بينهما، ومن هنا، نفهم أن الإسلام لم يجعل المرأة لا تخرج من بيتها إلا إلى القبر، كما يدعي البعض، وفي تبني هذه النظرية انحراف عن الفهم الجيد لمنهج القرآن في التعامل بين الجنسين.

ومن خلال التعامل مع الجنسين، يخرج لنا الحديث بين الرجل والمرأة، أو الشاب والفتاة.

وفي هذا المقام لا ننسى أن كثيرا من فقهاء الماضي والحاضر يحرمون تعامل المرأة مع الرجل من باب سد الذرائع، والإفتاء على قاعدة سد الذرائع دون النظر إلى القواعد الفقهية الحاكمة والأدلة الشرعية يحتاج إلى نظرة وتوقف، والحكم يستفاد من الكتاب والسنة وغيرهما من الأدلة الشرعية المعتبرة دون تخوف من شيء، مع اعتبار ما قد يقع من أخطاء بين الجنسين، فلا تغفل طبيعة التعامل بين الجنسين، والتي تختلف مع طبيعة التعامل مع الجنس الواحد في الغالب.

وحين ننظر إلى واقع الناس، نجد أن الكلام بين الجنسين، قد يكون ضرورة، وقد يكون حاجة، وقد يكون شيئا عاديا، وقد يكون كلاما في غير محله، أو يكون نوعا من التسلية، أو يقصد به صيد المرأة من خلال الرجل، أو صيد الرجل من خلال المرأة، لتحقيق هدف غير مشروع.
وحين ننظر إلى القرآن الكريم، والسنة النبوية، نجد أن الكلام بين الجنسين كان موجودا.

وهذه بعض المواقف للحديث بين الجنسين:

* موقف موسى عليه السلام مع ابنتي شعيب:
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ. وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ. قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ). 

فلننظر إلى هذا الموقف بين موسى عليه السلام و ابنتي شعيب، وموسى.. من هو موسى من كونه نبيا، بل ومن أولي العزم من الرسل، إنه حين رأى الفتاتين بعيدتين عن بئر الماء، والرجال يسقون، تقدم هو بدافع الذاتية من عنده، ومن إسداء الخير للغير، ولو كانتا فتاتين، وسألهما عن خبرهما، وعلم أن أباهما شيخ كبير، فأخذ ماشيتهما وسقى لهما، ثم انصرفا.

وحين علم أبوهما بذلك، أرسل إلى موسى إحداهما وحدها، وبحثت عنه، فوجدته عند شجرة، فتقدمت إليه في حياء وأدب، وتحدثت إليه، بأن أباها يدعوه، ليجزيه أجر ما فعل.

فسار موسى معها في الطريق، بأدبه ووقاره، حتى وصلا إلى البيت.
وفي البيت وأمام الأب، لم تستح الفتاة أن تطلب من أبيها أن يعمله عندهم أجيرا، لما رأيا منه من حسن الخلق، بل سألها أبوها عن السبب، فأرجعته إلى قوة بدنه، وأمانة أخلاقه.

بل تطور الأمر إلى أن تكون الأجرة مهرا لإحداهما، والراجح من أقوال المفسرين أن التي كانت تتحدث هي التي تزوجها موسى عليه السلام، وكان اسمها صفورا.

ومن الأمور التي لم يصرح بها في القرآن، وإن كانت معلومة من سياقه، أن موسى عليه السلام، كان يعيش عندهما، أو على الأقل أنه كان يحدث احتكاك بينه وبين الفتاتين، ولكن كل هذا في جو من العفة والأدب.

وهذا إقرار يفهم من القرآن بعدم حرمة الكلام بين الجنسين واللقاء بينهما، إذا توافرت الأخلاق الفاضلة، مع حسن القصد، والبعد عن الريبة.

وعلى العكس من هذا، ذم القرآن فعل امرأة العزيز، في موقفها مع يوسف عليه السلام، ومع كون القرآن أظهر لنا الموقف المرفوض من محاولتها إغواءه، وحكى لنا عقدة القصة كما يسميها أهل الأدب، فإنه يفهم أنها حاولت معه بوسائل كثيرة، ومنها لين الكلام بالطبع، فلا يخفى على مثل زليخا أن تجيد الكلام المعسول، لتصل إلى مرادها، بل من المستبعد عقلا أن تدعوه إلى الزنى بنوع من المباشرة والجفاف، فهذا ما لا يتم الأمر به.

وقد رفض القرآن الكريم هذه الدعوة الفاسدة المفسدة من امرأة العزيز، ومثل الفرض ذروة الفعل، وهو ينسحب أيضا على مقدماته، ولذا جاء القرآن الكريم بالتصريح في هذا، وقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}، وكذلك: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، وفي هذه الحالة لم يحرم الإسلام الفعل لذاته فحسب، بل حرم كل ما يفضي إليه، فقال: “ولا تقربوا“، فهو ممنوع الاقتراب، وممنوع الفعل.

بل من الأمور المسلم بها حياة يوسف عليه السلام في قصرها، وأنه كان خادما عندها، وبالتالي فقد كانت تجري حوارات من الطلب في فعل الأشياء وغيرها، وهي غير مستنكرة لا عقلا، ولا شرعا.

* كما حكى لنا القرآن الكريم قصة سليمان مع بلقيس، وأنه أرسل إليها رسالة مع الهدهد، ثم إنها أتته بعد ذلك، واصطحبها، وهو يريها عظيم فضل الله عليه، وما آتاه من الملك، مع ما يصاحب هذا من مناقشة وكلام، أقره القرآن بطرف خفي.

* ومن أمثلة السنة ما رواه البخاري في صحيحه:

من أن سلمان الفارسي زار أخاه أبا الدرداء، ورأى على امرأته ثيابا مبتذلة، فراجعها في هذا أمام زوجها، فردت أن زوجها لا حاجة له في الدنيا.

وربما يعطي هذا المثل نوعا من الحميمية المشروعة، وفي الرد لأم الدرداء: أخوك لا حاجة له في الدنيا، يدل على هذه الحميمة بين الصاحبين، والذي يهمنا هنا هو أن سلمان تحدث مع أم الدرداء في كلام نعتبره خاصا في مجتمعاتنا، ومع هذا حين حكي الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على سلمان كلامه مع أم الدرداء وتدخله في شئونهما الخاصة.

ولكن لا يفوتنا أن هذا حدث في جو من الصفاء والنقاء من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا يتخذ ذريعة لكل إنسان يعلم من نفسه البعد عن أمانة الأخلاق، ونظافة السلوك.

وقد كانت النساء تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أمام محضر من الصحابة، ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم عليهن، كما فعلت أسماء بنت عميس وغيرها.

أما استخدام وسائل المحادثة الالكترونية، فلا تعد من باب الخلوة الشرعية، لأن الخلوة يكون فيها الرجل مع المرأة في مكان يأمنان ألا يدخل عليهما أحد، وفي هذه الحالة يجوز أن يقوما ببعض الممارسات التي لا يمكن ممارستها خلال وسائل الاتصال الحديثة، على أن هذه الوسائل فيها شبه خلوة، إن كان الشاب والفتاة بمفردها، وليس في مجموعات محادثة، أو كان الحديث في مكان عمل ونحو هذا.

ومن المعلوم أن صوت المرأة ليس بعورة، وإنما يباح الكلام إن كان مباحا، ويحرم إن كان موضوعه حراما، فموضوع الكلام هو الذي يحدد الحل من الحرمة.

وقد يضاف إلى هذا الرؤية من خلال الـ :”webcam”، فيرى الرجل المرأة، وترى المرأة الرجل، فإن كانت النظرة بشهوة، حرمت، وإن كانت نظرة عامة مع عدم الاستدامة، فلا يمكن الحكم عليها بالحرمة. مع الأمر بغض البصر، سواء من خلال الصورة أو الحقيقة.

ولابد أيضا من التفرقة بين الكلام العام، والكلام الخاص، فالكلام العام أقرب للإباحة، إلا إذا داخله ما يشوبه، والكلام الخاص يحكم عليه بموضوعه، وإن كان لابد فيه من ضرورة داعية إليه.

كما أن مكان الحديث يعطي بعض الظلال على الحكم، فالحديث في مكان عام، غير الحديث في مكان خاص، فالمكان العام يعطي – في الأغلب – احتراما وعمومية، بخلاف الكلام المكان الخاص، مع اعتبار أن العموم والخصوص ليسا هما أداة الحكم الوحيدة على الكلام.

ويتنوع مكان الكلام، فقد يكون في غرفة خاصة، وقد يكون في مكان للعمل، أو في نت كافيه، وغير ذلك.

ولابد للنظر إلى دافع الكلام، فقد يكون الكلام عاما، لكن يقصد الإنسان منه غرضا غير طيب، أو يكون كلاما خاصا، لا يقصد منه ما قد يفهم من الخصوص، ويمكن اعتبار دافع الكلام في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات”.

ومع تنوع أشكال الدافع، فتبقى النية هي الضابط في الموضوع، فهناك الحديث في مجال العمل، والحديث في تبادل المعرفة، والحديث في مجال التعليم والتعلم، والحديث في مجال الصداقة.

فكل هذه محددات يجب اعتبارها عند الحديث عن الكلام بين الجنسين.

بل من أعجب ما يحكى في التاريخ تولية عمر بن الخطاب رضي الله عنها، لامراة اسمها الشفاء بنت عبد الله، محتسبة للسوق الذي يكثر فيه الرجال، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وقد تصدر عقابا لغاش في البضاعة، أو تأمر بطرد من خالف قواعد البيع والشراء،وهي امرأة.

ومع كل هذا، فإننا لا ننسى الواقع الذي نعيشه، فهناك من يستخدم وسائل النت في الحديث مع الجنس الآخر، للاصطياد في شباك الحرام، فيستخدمون معسول الكلام، وإظهار الإمكانات والطاقات الفردية، ليعجب الجانب المقابل، ليحقق غرضه الخبيث.

وهناك من هو صادق النية في دعوة الغير إلى الخير، من الجنسين، وإن كنا نسعى إلى تفعيل العلاقة بين الجنس الواحد، فلا ندعو إلى الفصل التام بين الجنسين، إلا ما يخشى معه الضرر، أو الانزلاق في مهاوي الخطر، وخاصة ما يتعلق بالشهوة بين الجنسين، وما أوجده الله تعالى من ميل كل جنس لآخر.

وفي مراقبة الله تعالى في كل فعل، واتباع القواعد العامة للسلوك الإنساني النظيف، سياج يحمي القاعدة العريضة من الوقوع في الخطأ، أو التهاوي في الزلل، فـ(كل نفس بما كسبت رهينة).

واعتبار الوازع الديني، واستحضار الحساب والجزاء عندالله، يجعل المرء في محاكمة مع نفسه، ليضبطها عما تريد أن تحيد عنه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ}.

وبعد هذا العرض التفصيلي، والتأصيل من الناحية الشرعية، يمكن أن يحاكم كل إنسان نفسه، وأن يعرف هل حديثه هو، وليس الحديث عامة – مع الجنس الآخر، مباح أم لا؟

وهل سلوكه هذا لا غبار عليه من خلال المعيار الأخلاقي للإنسان، أم أن فيه خروجا عن الفطرة السوية لبني البشر ؟

فمع كون الموضوع عاما، لأنه لا يحكم بعمومه في كل المواقف، بل يبقى الأمر خاصا، حسب كل شخص، وما يحيطه من معطيات معرفية عرضت في الكلام السابق.

أما عن المشكلة المعروضة، فيمكن أن نقول:

إن من المفترض أن يكون صاحب المشكلة قد سأل عن هذه الفتاة قبل أن يتقدم لها، وعن أخلاقها، وسلوكها وتصرفها، وجمع ما يشبه البيانات الإحصائية التي أهلت هذه الفتاة لأن تكون مرشحة للتقدم، بل إنه قد أخذ خطوة إيجابية من التقدم والرؤية والارتياح بين الجانبين، وسار الأمر على ما يرام،حتى ظهر أنها فتاة إنترنت، تظهر في الساحات العامة، وتتحدث مع الرجال باسم مستعار.

إن الأمر حتى اتخاذ القرار بإنهاء الخطبة مايزال بعيدا عن الارتباط الوثيق، الذي تنتقل فيه الفتاة من بيئة إلى أخرى، أو من حياة إلى حياة أخرى.

إن له بعد الزواج أن يشترط ألا تدخل على ساحات النت، أو تتحدث حديثا فضفاضا عاما، ربما كان له الحق في هذا، لأنه عقد، يكون فيه لكل منهما اشتراطات معينة، ولا بأس بهذا، مراعاة للعوامل الفسيولوجية، والتكوين الاجتماعي، والموروث الثقافي للإنسان.

ومحاسبة الفتاة على الماضي النظيف الذي قد يشوبه شيء -ربما كان شيئا عاديا عند كثير من الناس ولكن قد ينظر إليه البعض نظرة أخرى- شيء مستغرب.

إن من الواجب عليه نسيان المرحلة الماضية، وله النظر في المرحلة القادمة.

ومع أن ما ذكر من حديثها العام، ليس فيه ما يدعو إلى اتهامها في شيء، فإن اعتباره خطأ- كما هو في نظره – ليس بالخطأ الفادح الذي يدعو إلى فسخ الخطبة. ولو تحرك الإنسان بهذه الشخصية في كثير من المواقف، لزاد حجم المشكلات بين بني البشر.

وأنا لا أنفي أن يكون الإنسان ذا غيرة على من ارتبط بها، فهذا شيء محمود، ولكن كيف نتصرف في مثل هذه الحالة؟

حين سأل صاحب المشكلة خطيبته إن كانت هي من تتحدث على الساحة باسم مستعار هو كذا؟ لم تنكر، يعني أنها واضحة مع نفسها، ولم تكن تشعر أنها أخطأت، فكان يمكن هنا أن يخبرها بأسلوب رقيق وهادئ أن مثل هذا الفعل لا يقبله، وأنه يحب أن يكون الحديث مقتصرا معه، وألا تتحدث مع غيره..

فإن رضيت، تم الأمر، وإن رفضت، فهنا سيظهر اختلاف في الرؤية مع التعامل مع المجتمع، وبالتالي يمكن إنهاء الخطبة بشيء من الهدوء العاقل.

كما أن طريقة إنهاء الخطبة كانت في غاية الغرابة.. اتصال هاتفي حاد، يكاد الإنسان فيه يصل إلى ذروة الغضب، ثم يفجر قنبلة موقوتة بإنهاء كل علاقة، في وقت لم يكن الجانب الآخر لا يتوقع إلا كلاما طيبا، أو على الأقل كان أبعد ما يكون أن يفكر فيما حدث.

ثم ما الذي جعل صاحب المشكلة يثور هذه الثورة؟؟ هل لأن صاحبه هو الذي بلغه؟ وماذا لو كانت هي التي أخبرته؟ وماذا لو عرف بطريق المصادفة؟ أم لمجرد أنها فتاة تدخل على الإنترنت؟

إن الشكل قد يكون له تأثير في اتخاذ القرار، لكن الأصل أن تغير الوسائل وتنوعها لا يبعد الإنسان عن الهدف.

إن جرح مشاعر الفتاة لا يمكن إنكاره في مجال التعامل الإنساني، ليس لكون الفتاة أكثر عاطفة من الرجل، بل لأن الواجب حسن المعاملة مع بني البشر، ولو أن فتاة صنعت هذا مع شاب،لكان الأمر واحدا، “خروج عن الذوق الرفيع”.

ومن رأيي أن يطلب صاحب المشكلة من خطبها، وأن يجلس معها في جو بعيد عن الإثارة وما شابهها – بعد تفكير هادئ في الموضوع، وأن يراجع نفسه جيدا، ثم يحدد معها طريقة التعامل، وما يحب وما لا يحب، وتضع هي أيضا ما تحب وما لا تحب، ثم ينظرا هل يمكن لهما التلاقي في الحياة، وأن يؤسسا بيتا سعيدا؟ وهل يمكن لكل واحد منهما أن يتنازل عن شيء كان يحبه، أو يتنازل أحدهما لأجل الآخر أم لا؟

إن فتاة الإنترنت هي مثل أية فتاة تعيش معنا، فالإنترنت وسيلة قد تغير إلى الأحسن أو إلى الأسوأ حسب موقف كل إنسان منها.

أما حديث الفتاة في المنتديات فيرجع إليها، وهي في المقام الأول مسئولة عن نفسها، وكذلك يجب على والدها أو وليها إرشادها ونصحها لما فيه نفعها، ودفع الضرر عنها.

أما كون المرأة متزوجة، فمن حق زوجها أن يأخذ معها هذا القرار، إما بالمشاركة أو بالامتناع، في جو من الصفاء والبعد عن سوء النية، مع مراعاة اختلاف البيئات والظروف المحيطة لكل أسرة.

وأحسب أن المكاشفة والمصارحة بين الزوجين، ومعرفة كل منهما للآخر، ووضع الإيجابيات والسلبيات أمام أعينهما، ودراسة الموقف يساعد كثيرا في اتخاذ مثل هذا القرار.

وفي النهاية لا يمكن إصدار حكم عام في الموضوع، فتشخيص حالات المرض مختلفة في المرض الواحد، والمرض ليس له علاج بعينه، فقد يختلف من شخص لآخر. مع وضع مراقبة الله تعالى، واطلاعه على الإنسان، وأنه لا يخفى عليه شيء، مما يجعل الإنسان منضبطا في جماعة كان أو وحده، لأنه يراقب من لا يغيب عنه طرفة عين، وهذا بخلاف مراقبة البشر للبشر.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى