- السؤال:
كيف يتخلّص الإنسان عمليًّا من حبّ الدنيا ويجعل حب الله ورسوله الأولى والأول؟
- الجواب:
الأخت الفاضلة؛
مع وجازة سؤالك، إلا أنّه أكبر من كثيرٍ من الأسئلة التي تكتب في صفحاتٍ عديدة، وأجد أنّ السؤال عن شيءٍ عمليٍّ من أصعب الأسئلة وأطولها، لأنه يصيب كبد الحقيقة، ويوقفنا على أرضٍ صلبةٍ، ويرشدنا إلى واقع العمل بعيدًا عن الكلام الفلسفي الذي ينظر إليه كثيرٌ من الناس من زاوية الإجادة والإحسان، أو الإخفاق والبعد عن إصابة المراد، لا من ناحية العمل والتنفيذ.
وقبل الإجابة عن السؤال أرى أنه يجب تحرير مفهوم حبّ الدنيا أولاً، وحب الدنيا يغلب عليه أنه من الأمور التي ذمّها الشرع، وقد جاءت آيات وأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذمّ الدنيا.. ومع هذا، فقد أتت أحاديث وآيات تدعو المسلمين إلى تعمير الدنيا، فكيف تُذمُّ ويؤمر بتعميرها؟
وهذا يسوقنا إلى أنَّ حب الدنيا ليس مذمّةً في ذاته، ولكن حب الدنيا المذموم إنّما يعني أن تعمر الدنيا القلوب، بحيث يطغى حبها على كل حب، وتقدم على العمل للآخرة، وهذا ما جاء في قوله تعالى:
{بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا * وَٱلْـَٔاخِرَةُ خَيْرٌۭ وَأَبْقَىٰٓ}، فمذمَّة الدنيا تأتي من ناحية إيثارها على الآخرة، والعمل للدنيا لذاتها، وذلك أنَّ طبيعة الدنيا في الإسلام أنّها مزرعةٌ للآخرة.
ومعنى الزرع هنا لا يعني الزهد الدائم فيها، بل يعني أنّ كلّ عملٍ يعمله الإنسان في الدنيا من جدّ ولهو، ومن اجتهادٍ ولعب، ومن استمتاعٍ وإنتاج، وغير ذلك من صنوف الأعمال يجب أن يكون لله، وأن يكون ممّا أباح الشرع الحكيم.. فللمرء أن يفرح ويسعد وأن يحزن، وأن يستريح وأن يتعب.. إلخ، لأنّ هذه أنشطةٌ في العمل اليومي للإنسان، بعيدًا عن معتقده، ولم يأت القرآن ليجعل الناس محبوسين في بعض الأعمال دون بعض، بل أباح الشارع للناس أن يفعلوا ما يشاءون إلا ما حرم عليهم، ودائرة التحريم في الشرع محصورة قليلة.
ولعل هذا المثل –من كون التحريم قليل محصور- قاعدةٌ قديمة متأصلة منذ بدء الخليقة، فإن مساحة التحريم الذي حرّمها الله تعالى على آدم –عليه السلام– كانت شجرة، وله أن يأكل مما سواها، وجعل الشرع هذه القاعدة دائمة، فالحرام محصورٌ قليل، والحلال واسع الميدان والمجال.
وحين نريد أن نحوّل العمل الدنيوي إلى عملٍ أخروي، ليس شرطًا أن نترك العمل، بل نحوِّل وجهته، ونغيِّر قصده، ونصحِّح النيَّة فيه، بحيث نبقي على أنشطة الحياة التي نقوم بها، ولكن نصوب الوجهة فيها، فتكون لله رب العالمين، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ}.
وأضرب لكِ مثلا: قد تكون لك صديقة معينة، وقد ترين فيها مثلاً للفتاة التي لا همّ لها إلا اللهو واللعب، وترين من الخير تركها.. أليس من الأفضل أن تحوّلي هذه الصداقة إلى صداقة لله؟ وأن تأخذي بيدها إلى طريق الله؟ وتبق علاقتك بها واللقاء والجلسة والتزاور والخروج معها على ألا يكون فيه شيء مخالف لمنهج الله.
وإذا كان الإنسان مثلاً يحب القراءة، وهو يطلع على الغث والسمين، فلا يترك القراءة بالكلية، بل يفكر كيف يحول قراءته إلى أداة فاعلة في حياته، يكتسب منها ما ينفعه، ويجعل أول القراءة قراءة كتاب الله، والكتب النافعة.. سواء أكانت من الدين أم من علوم الدنيا التي تقرب من الله، وتُكسب الإنسان مهارات في حياته، وتطلعه على الدنيا وعلومها، فيزداد يقينه بالله، ويقوى إيمانه بربه، لأن كل ما في الكون شاهد على قدرته، ينطق بصنعته، ويشهد له بربوبيته، ويقر له بوحدانيته.
إن المقياس الحقيقي لمعرفة أنَّ الله تعالى ورسوله أحب إلينا مما سواهما، أن ننظر في قلوبنا، وأن نقيس كل فعل نفعله.. هل هو لله، أم لحظوظ النفس والهوى فيما حرم الله تعالى؟ أو لم تكن النية فيه صادقة لله، فقد يكون العمل صالحا، ولكن لا تكون النية فيه خالصة إذ يكون ابتغاء شهرةٍ أو شهوةٍ، أو طلبًا للجاه والمكانة، أو إشباعًا لرغبة ليس فيها شيءٌ لله.
ومن علامات تقديم الله ورسوله على ما نحب أن ننظر مواطن الطاعة، والصراع الدائم بين الخير والشر، فإن كان الله تعالى ورسوله يأمر بشيء، وأنفسنا تحب شيئًا آخر، فأي الأمرين نقدم.. أمر الله ورسوله، أم أمر أنفسنا وأهوائنا؟
وما أجمل ما قاله الله تعالى في ذلك حين قال:{قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةٌۭ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُوا۟ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ}.
أما عن البرنامج العملي لاستبدال حب الدنيا بحب الله ورسوله، وجعله هو الأولى والأول، فإن هذا لا يقال فيه برنامج عملي بهذا العموم، بل فيه بعض الضوابط التي أشير إليها سابقا، ولكن يجب أن تنظري –أيتها الأخت الفاضلة– إلى مظاهر حب الدنيا عندك، وأن تكوني عالمةً بها، وأن تحدّديها واحدةً واحدة، وأن تبدئي مع نفسك بأخذها رويدًا من حبّ الشيء الدنيوي، وأن ترتقي بنفسك إلى حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الشيء المحدد، ثم يكون النظر في النقطة التي تليه.. ومع هذا السير وهذه المجاهدة فإن الإنسان يكتسب مع الوقت أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
- ويمكنك أن تستعيني بعد الله ببعض الوسائل أهمها:
– الهمة العالية، فإنها الدافع للتغيير إلى الأحسن.
– النية الصادقة، فمن نوى خيرًا وفقه الله تعالى إليه.
– التدرج في التغيير، لأن التسرّع فيه، قد يوهم الإنسان أنه تغير في شيء، وإذا به يجد نفسه قد خطا خطوة، إلا أنه رجع بعدها إلى ما كان عليه أولا.
– القراءة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والاطلاع على أحواله، وخاصة في كتاب “زاد المعاد في هدي خير العباد” للإمام ابن القيم، و”سبل الهدى والرشاد” للإمام الصالحي، وغيرهما من الكتب التي تهتم بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من كتب الشمائل وما تهتم بحياته صلى الله عليه وسلم الفعلية.
– الاطلاع على سيرة الصالحين، من الصحابة والتابعين والسلف الصالح، ومن أجود ما كتب في ذلك حديثًا: “صور من حياة الصحابة”، و”صور من حياة التابعين”، و”صور من حياة الصحابيات”، وكلها للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، وكذلك “رجال حول الرسول” لخالد محمد خالد، وغير ذلك من الكتب التي تتحدث عن سير الصحابة والصالحين.
– البحث عن إحدى الأخوات اللائي يعرفن بتزكية النفس، وحسن الأخلاق والسلوك، وأن تكون معلمة في هذا، حتى يمكنك السير معها وأن تأخذ بيدك إلى الله.. فإن لم تجدي، فاختاري أختًا صالحة، أو أخوات صالحات من زميلاتك، يعاون بعضكنّ بعضًا في السير إلى الله.
– الدعاء الدائم لله تعالى أن يغير حالنا إلى أحسن حال، فما خاب عبد رجاه، وما أغلق الله تعالى بابا في وجه عبد سعى للعودة إليه.
أختي الفاضلة؛
ربما كنت تريدين أن أكتب لك جدولاً عمليا، غير أن سؤالك كبيرٌ لا يمكن أن يجاب عنه في مثل هذه المساحة المحدودة، ولكن أتمنى أن تكون في كلماتي السابقة، والروابط التي ألحقها بإجابتي نفعًا وفائدة وتحقيقًا لما تمنيت أن تجدينه في الرد على سؤالك، وأن ترشدك لما تصبين إليه، ونصبو إليه معك جميعا.
ونسأل الله تعالى أن يملأ قلوبنا بمحبته، وأن يجعل حبه أحب إلينا من أنفسنا، وأحب إلينا من أولادنا وأزواجنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن كل ما نحب..
اللهم آمين
- د. مسعود صبري