استشاراتتقوية الإيمان

انحرفت بعد هدايتي..

  • السؤال:

أنا لا أعرف من أين أبدأ..
سؤالي عن: لماذا يبتلي الله العباد؟ ربما ظننتم أنَّ هذا سؤالٌ مكرَّر، والإجابة عليه أن الابتلاء إما ابتلاء بمعنى الاختبار للإيمان أو تكفير ذنوب أو عقاب حتى ينيب الإنسان؛ ولكن سؤالي أعمق من هذا بكثير..
أولا حديث النبي أنَّ الله أرحم بعباده من الأم برضيعها، هذا الحديث من الصعب أن أستوعبه وأنا أرى وأسمع عن أناس عذبوا حتي كاد عقلي أنا يطير -وليته طار- يعذبون لسنوات طوال.. أطفالاً ونساءًا ورجالاً عذابًا يجعل الأفكار السوداء تطاردني في منامي ويقظتي، وأنا أتحدَّث عن أناسٍ مسلمين أو غير مسلمين من أطفالٍ لم يدركوا حتى معنى وجود الله.
أنا نفسي مررت بسلسلةٍ من الأزمات مما جعل منّي شابًا كل ما يتمناه هو أن يعيده الله إلى العدم ولا أطمع في أكثر من هذا.. نشأت صبيًّا متديِّنًا أحببت الله ورسوله لك أن تتخيل -سيدي الفاضل- صبيًّا في الصف الإعدادي لا يفوِّت صلاةً في المسجد ويواظب على قيام ثلث الليل الأخير كاملاً ولا يجرؤ أن ينظر حتى إلى وجه امرأةٍ غير محجَّبة خوفًا من الله.. صبيٌّ دون الثانية عشر قرأ في سير الصالحين وحاول أن يجسدها في ذاته من الطاعة والذكر ومقاومة الشهوات والتطلع إلى الفردوس في وقتٍ كان أقراني يمرحون ويلعبون كأي صبي في هذه السن المبكرة.. كنت أتحدى الكل حتى أسرتي المتدينة إذا حاولوا إثنائي عن ما أسموه بالتشدد وصدقوا والله.
كنت أعلم أنه فضلٌ من الله، وأدعوا الله أن يثبتني على الخير ويعصمني من الشيطان.
كنت شديد الحرص على مذاكرتي، وكنت أول فصلى.. أكتب الشعر وبعض القصص القصيرة، مما كان يزيد من ثقتي وقدرتي على تحمل استهزاء زملائي بي كصبيٍّ يعتبرونه معقدًا، لما في تصرفاتي من بعض التشدُّد الذي صار كبيرًا للأسف بفضل مذهب الأئمة السعوديين المتشددين، ولطالما حذرني أبي منه، ولكنني كنت أقول هؤلاء أهل ذكر وأبي ليس بعالمٍ في أمور الدين.
آسف على الإطالة ولكن انظروا ما حدث لي بعد حوالي عام ونصف من التقرب إلى الله:
1- لحرصي الشديد على الوضوء والتطهر أصابني وسواسٌ رهيبٌ خرَّب عليّ عبادتي ومذاكرتي فبعد أن كنت كما يقال حمامة المسجد صرت أقضي معظم وقتي أعيد الوضوء والتطهر وأجمع الصلوات على بعضها، وزاد من الوسوسة خوفي من الارتداد عن الصراط المستقيم وبدأت أنعزل عن أسرتي وأصحابي وأنا في مقتبل العمر لا أعرف كيف أواجه كل هذا.. خارت قواي بعد فترةٍ طويلة من المعاناة ووجدت أن الحل الوحيد هو ترك الصلاة لفترة أعيد فيها نفسي وإلا انتحرت، فانقطع الوسواس وفقدت ثقتي بنفسي. وصرت بعدها بين مداومة وترك للفرائض رغما عني وخوفا.

2- بدأت دراستي في الانهيار ومسقبلي يضيع، وبدأت أعيد سنوات الدراسة في الجامعة، ذهبت إلى أطباء نفسيين عله يكون نوعًا من الاكتئاب بسبب العزلة والوسواس وتأخري في الدراسة، ولكن قالوا جميعًا ليس عندك مرض نفسي، ذهبت إلى بعض من يعالجون بالقرآن فقالوا جميعا أني أصبت بالمسّ من جراء بكائي الطويل في دورات المياه أيام الوسواس في الطهارة.. استحممت بماء وشربت عسلاً قريء عليه قرآن وبرئت، ولكن الحال لم يتحسن.
أبي طبيب جراح ليس متخصصا في الأمراض النفسية ولكنه أصر أن عندي اكتئاب بعد فشل كل الطرق الأخري وباستشارة زملائه الأطباء النفسيين أعطاني مهدئات كنت سأنتحر بسببها لولا خوف عذاب الله في الآخرة.
سنين وأنا أبكي أستغيث بالله ولا شيء، وأكثر ما يؤلمني أني أعلم أن الله يقدر أن يذهب هذا بكلمة “كن” ولا يفعل سبحانه.
بعد سنوات بدأ الحال في الدراسة في التحسن بفضل الله، ولكن بعد أن فقدت الثقة وحتى الآن أعاني من رواسب الماضي البغيض الذي لا أعرف له سببا.
كيف أفهم بعد هذا الحديث (من تقرّب إلي شبرًا تقرّبت إليه ذراعا)؟ وأن الله خلق الكون لسعادة الإنسان، وأنه أرحم بعبده من الأم بطفلها؟؟؟؟؟ وأن الله يجيب دعوة الداعي؟؟؟
بكيت وتضرعت وصبرت حتى لا أكون من المتعجلين بالدعاء؟؟؟؟؟ دعوت أن يغفر لي ويقبضني أو يشفيني ويصلح من أمري، وهو يستطيع أن يفعل ذلك بـ”كن”، ولم يفعل سبحانه. وأحيانا كثيرة أتمنى أن أراه وأكلمه ليخبرني ماذا يحدث لي فلا أدري ما حكمة الله أن حرمنا من الحديث معه وسؤاله، أو ينزل علينا ملائكةً لأعلم إن كان ما يحدث لي من الشيطان أم أني مكتئب أم أن هذا عقابٌ أو اختبار؟؟؟
لماذا أصلا خلق الحياة والعذاب والألم؟ ولماذا لم يسمح لنا حتى بالاتصال به ليرد عن أسئلتنا؟؟؟
وأيا كان السبب.. أما كان يكفي أني آمنت به ورجوته سنين -ولازلت والحمد لله-، نسمع أن الله رحيمٌ ويجيب المضطر إذا دعاه، ولم أجد لهذا واقعًا أحسه مع أن إيماني أن الله موجود وأن نبيه صادقٌ ثابتٌ في عقلي بالأدلة العقلية والمنطقية فقط. أدركوني يا أهل الذكر لماذا إذن يعذبنا الله.. يا آخر وسيلة اتصال بيني وبين الله سبحانه وتعالى.

 

  • الجواب:

أخي الحبيب؛
كلما رأيت شابا مثلك زاد حبي له.. فكلنا مبتلى وإن كان لابتلاءاتنا أنواع {وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةًۭ ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
وهدئ من روعك يا أخي، فما زالت فيك بقايا إيمان، وما حدث لك ما هو إلا مجرد قشورٍ سرعان ما تزول بإذن الله تعالى.

وأبدأ كلامي معك، بما قرأته في نهاية رسالتك “يا آخر وسيلة اتصالٍ بيني وبين الله سبحانه وتعالى”، وأقول لك: مع حسن ظنك بنا، فلسنا آخر وسيلةٍ ولا أولها بينك وبين الله، فأنت ذاتك أول وسيلةٍ بينك وبين ربك، وستبقى هذه الوسيلة إلى أن يحين أجلك المحتوم، وقتما يشاء الله تعالى، بما قدر لك من عمر في الحياة.

يا أخي؛
تذكر معي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل)، وكما يقول البخاري في تعليقه على هذا الحديث: (لا يمل حتى تملوا) أي لا ينقطع عن قبول أعمالكم وإثابتكم عليها ما دمتم نشيطين في القيام بها، فإذا فعلتموها وفيكم سآمة وملل لم يقبلها منكم”.. وأبواب الخير كثيرة.. وللمسلم أن يختار منها ما يراه قريبا إلى نفسه، محببًا إليها.. ولذا كانت الجنة لها أبواب، فمن الناس من يدخل من باب الصيام، ومن الناس من يدخل من باب القرآن، ومن الناس من يدخل من باب الصلاة، وهكذا.

أخي السائل؛
الناس تفهم قدر الله تعالى خطأً، فإذا أصيب إنسانٌ بوسواسٍ قالوا: هذا من عند الله!! وإذا رسبوا في امتحاناتهم، قالوا: قدر الله! وإذا ما تحولوا من هدىً إلى ضلال، أو من راحة إلى تعب، سبوا الدهر، وسخطوا على ربهم، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
ولا أدري لماذا لا يرجع الناس فضل نجاحهم وراحتهم وسعادتهم حين تتحقق هذه الأمور لهم إلى الله؟؟!!!!

ومع هذا أقول لك:
إننا حين نرجع السعادة والنجاح والراحة لله، ذلك لأن الله تعالى يسر لنا أسبابها، فهناك من الأقدار ما هو محتومٌ على الإنسان.. كونك خلقت ذكرًا ولم تخلق أنثى، كونك تتنفس الهواء، كون أجهزة جسدك تعمل دون إرادتك، كونك لم تختر أبويك، فهذه أشياء كلها لله، وكل ما كان جبرًا على الإنسان فليس فيه ما يضره أبدا.

وهناك من الأقدار ما يعلمها الله تعالى سلفا، لكنه لا يجبر الناس عليها ولكنها نتيجة أعمالهم، فالذي يصاب بالوسواس لم يجبره الله تعالى عليه، لأنه ناتجٌ عن عوامل مكتسبة، قد يكون إهمال الوالدين في تربيته، قد يكون نتيجةً لبعض المواقف التي قابلته، قد تكون نتيجة لقراءات قرأها، قد تكون نتيجة لاختيارات أقدم عليها.. فما عمل الله تعالى في هذا؟؟؟ إنه كسب الإنسان نفسه.

كون إنسانٍ يفشل في دراسته، وآخر ينجح.. إنها مكتسباتنا نحن، وليست من الله تعالى، لكن الله تعالى هيَّأ لنا الأسباب التي تجعلنا قادرين على النجاح والإنسان هو الذي يتخير لنفسه، فنرجع الفضل لله تعالى، لأنَّه هيَّأ لنا الأسباب التي تجعلنا سعداء.
وكل شرٍّ موجودٌ في الأرض حذرنا الله تعالى منه، وأرسل لنا الرسل لتوضح لنا المنهاج الصحيح في أمور الدين والدنيا، لأنَّ الله تعالى لا يحب عذاب الناس، وقد قال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًۭا}.

إن الله تعالى أرحم بنا من أنفسنا ومن أمهاتنا ومن آبائنا، لأننا خلق من خلقه يحب لنا الخير، ويكره لنا السوء والشر.. إن الذين يعذبون في الأرض، هل الله تعالى هو الذي عذبهم؟ هل الطاغية والدكتاتور الذي يعتقل الناس بلا ذنب ويعذبهم وقد يقتلهم، هل الله تعالى هو الذي جعله يفعل هذا؟!!
إن الله تعالى حرم هذا على عباده، وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينهم محرَّمًا فلا تظالموا)، بل إن الله تعالى يعاقب الناس على ما اقترفوه من ذنب وإثم، وخاصة فيما يخص شئون الآخرين، بل إن الله تعالى يغفر ذنب العبد الذي بينه وبينه، ولكنه لا يغفر ذنبًا تعلَّق بحقِّ واحدٍ من بني آدم إلا أن يعفو عن أخيه.
وإذا كان الإنسان يعذب نفسه ببعض الوساوس والهواجس النفسية، فهو الذي جنى على نفسه، ولو خرج منها وعاش حياته كما يعيش بقية الناس، هل الله تعالى يمنعه من ذلك؟؟؟

يا أخي؛
تذكر معي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه –فيما رواه البخاري-: (يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل)، وكما يقول البخاري في تعليقه على هذا الحديث: (لا يمل حتى تملوا) أي لا ينقطع عن قبول أعمالكم وإثابتكم عليها ما دمتم نشيطين في القيام بها، فإذا فعلتموها وفيكم سآمة وملل لم يقبلها منكم”.. وأبواب الخير كثيرة.. وللمسلم أن يختار منها ما يراه قريبا إلى نفسه، محببًا إليها.. ولذا كانت الجنة لها أبواب، فمن الناس من يدخل من باب الصيام، ومن الناس من يدخل من باب القرآن، ومن الناس من يدخل من باب الصلاة، وهكذا.

إننا في حاجةٍ إلى أن نقرأ في هدي النبي صلى الله عليه وسلم.. في أفعاله، وأقواله، وتصرفاته، وسلوكه.. كيف كان فتى؟ وكيف كان شابا؟ وكيف كان رجلا؟ وكيف كان زوجا؟ وكيف كان صديقا؟ وكيف كان مجاهدا؟ وكيف كان رسولا ومبلغا؟

ولو أحببت أن ألخِّص لك لبّ مشكلتك يا أخي لقلت لك:
إن السبب الرئيس فيما أنت فيه هو جهلك بحقيقة الدين، مع ما يقدم لنا من صورة الإسلام من اجتهادات بشرية، قد تصلح لبعض البشر، ولكنها قد تكون شاقة على البعض الآخر.

يا أخي؛
رأينا من الآباء والأمهات والأبناء، من يشذ عن حقيقة وظيفته في الحياة تجاه من له صلة بهم، لكن رحمة الله تعالى أوسع، إن الله تعالى يقول: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍۢ}، هل تدري كم كان سيصيبك من البلاء ورفعه الله عنك؟ ألا ترى أن الله تعالى عافاك من أمورٍ ابتلي بها غيرك، وربما أتيت أنت بالأسباب التي تجعلك تصاب بهذا البلاء؟
إن هذا من رحمة الله، ولكن الله تعالى ليس مطالبًا أن يذكر للإنسان تبريرًا وتوضيحًا لكل ما يفعله، لأنك ملكه، وهو الذي خلقك، والواجب عليك أنت أن تفهم رسائل الله لك، وما حباك من نعم.
اجلس مع نفسك، واكتب بقلمك النعم التي أنعم الله تعالى بها عليك، واكتب ظلمك لنفسك، وعصيانك لربك الذي خلقك وأنعم عليك.

أخي الحبيب؛
إن الله تعالى خلق الحياة بحلوها ومرها، وحلاوتها لأن فيها تعبًا وكدرًا، كما أنّ فيها راحة ونعيما، ونحن الذين نرى الدنيا بما نلبس من نظارات، وقد قال الشاعر:
كن جميلاً ترى الوجود جميلا.

أدعوك يا أخي أن تمكث مع نفسك، وأن تغيِّر من نمط حياتك، بنوعٍ من التوازن، وأن تكون إنسانًا طبيعيًّا، تؤدي لله فرضه، وتعطي نفسك حقها من الحياة، وأن تعطي لأهلك وجيرانك وأصحابك وأحبابك حبك، وأن تخرج من الدائرة التي حصرت في نفسك، ومن السجن الذي عذبت به روحك.. فما تعانيه الآن ما هو إلا نتاج عملك وتفكيرك.
فعش سعيدا في طاعة الله، فما وجدت في الدنيا أسعد ممن فهم دينه حقا وأطاع الله، ومن حاد عن ذلك ما عرف السعادة.. فنحن صنيعة الله، ومن خرج عن الإطار الذي حدده له من صنعه، فإنه آلةٌ لا خير فيها، ولن تؤدي دورها، ولن تجد السعادة في زمانها.

واعلم أن الله تعالى يحب توبة من تاب إليه وعاد، واعلم أن الله تعالى يحبك، وهو يبتليك ليكفر عنك سيئاتك، حتى تعود إليه وقد رضي عنك.. فهل تغضب من تكفير الله سيئاتك؟
وهل تغضب لأن الله تعالى يعد لك حياةً سعيدةً في الآخرة؟
ومع هذا لم يمنعك من أن تكون سعيدا في الدنيا.. فأسعد نفسك يسعدك الله، واعلم أنه لا سعادة إلا في طاعة الله بمفهومها الذي أوضحناه الله.
وفقك الله تعالى لما يحب ويرضى.

ونحن معك أخي الحبيب.. ننتظر رد فعلك، ولو كان عندك آلاف من الاستفسارات فننتظرك، لأننا نحبك، فأنت أخونا في الله.. نسأل الله تعالى أن يجمعنا على طاعته ورضوانه وأن يجمعنا في مستقر رحمته.. اللهم آمين.
في انتظارك أخي.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى