- السؤال:
السلام عليكم..
في حديث معاذ بن جبل، يقول الرسول صلوات الله عليه (ألا يعذبهم) في حق العباد على الله، ومن عَبَد الله تعالى ولم يشرك به شيئًا.. كيف يضمن الإنسان خلوَّ قلبه من الشرك بالله ليضمن نجاته من عذاب ربه؟؟؟
- الجواب:
أخي الحبيب؛
مع قصر سؤالك إلا أنّه سؤالٌ كبيرٌ جدًّا، بل هو يلخّص حقيقة الحقائق، وهو مفتاح النجاة، وسبب السعادة، وطريق الهداية، ومرتقىً عظيم لكل مؤمنٍ بالله حقا، ارتضى الله ربًّا، والإسلام دينًا، ومحمدًا نبيًّا ورسولا، والقرآن منهجًا ودستورا.
ودعني أخي قبل أن أبدأ كلامي في الإجابة على سؤالك، أقدم لذلك بنص الحديث الذي أشرت إليه كاملاً، وذلك حتى نتفكر جميعا في معانيه، فعن معاذ رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمارٍ يقال له عفير، فقال: (يا معاذ، هل تدري حق الله على عباده، وما حق العباد على الله)، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإن حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا)، فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيتكلوا) رواه البخاري.
أخي الحبيب؛
إن توحيد الله هو لب الدين وعماده، لأن الإيمان الصادق بالله تعالى هو ركن الدين الأساس، ولعل هذا ما يفسر قوله تعالى:
{إِنَّ ٱللَّهَ لَايَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ}
- وحقيقة عدم الإشراك بالله توحيد الله تعالى، فلا تشرك في عملك معه أحدًا، ولا تقصد مع وجهه وجها، ولا تطلب بعملك ثوابا إلا منه، ولا تقصد إلا بابه، لا تجعل ذلك إلا له، ولا تطلب عزَّك إلا منه، ولا تستمد قوتك إلا من قوته، ولا قدرتك إلا من قدرته.
أن توقن أن عملك الصالح هو منه نعمة عليك، واجبٌ عليك شكرها، فتشكره في أمر الدنيا، ويزداد شكرك له في أمر الآخرة، فلو كان الشكر على الفاني واجبا، فإن الشكر على الباقي أوجب.
لا تتعامل في الحقيقة إلا معه.. فإن تعاملك مع خلقه يكون حسب ما أراد، وتعاملهم بما أحَبَ وطلب منك، فيكون الظاهر تعاملك معهم، والباطن تعاملك معه.
أخلص نفسك له.. فحياتك وحركتك وكل ما تفعل منه، فواجبٌ أن تكون له وحده، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ *
فإن وجدت في نفسك أن الله تعالى ملأ عليك حياتك، وأنك تراقبه في كل صغيرة وكبيرة، فاعلم أنك مخلص له سبحانه.. فلا تخش من الخلق واخش من الخالق، ولا تراقب الخلق وراقب الخالق، ولا تنظر إلى الخلق ولكن انظر إلى من يعلم ما لا تعلمه أنت عن نفسك {فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى}، {إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ}.
واعلم أخي أن القلوب تربى وتهذب، وإنما تأتي التربية والتهذيب إذا أخذناها بالتدرج، وارتقينا بها إلى الله برفقٍ واعٍ.
وأسوق لك بعض كلمات لإمام من أئمة التربية الروحية من علماء المسلمين، وهو الإمام عبد القادر الجيلاني، يقول:
“الموحد عنده قوة توحيده، لا يبقى له أب ولا أم ولا أهل ولا صديق ولا عدو ولا مال ولا جاه، ولا سكون إلى شيء في الجملة، لا يبقى له سوى التعلق بباب الحق عز وجل ومننه”.
وهذا فهمٌ لقوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةٌۭ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُوا۟ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ}.
ويقول في موطنٍ آخر:
“يا منافق! إلى متى تنافق؟ إيش يقع بيدك ممن تنافق لأجله؟.. ويلك! أما تستحي من الله؟ أما تؤمن بلقائه؟ عن قريب تعمل عملاً له وباطنه لغيره، وتخادعه وتستجدي به بعلمه بك، ارجع وتدارك أمرك، وأصلح نيتك له، واجتهد ألا تأكل لقمة ولا تمشي خطوة ولا تعمل شيئا في الجملة إلا بنية صالحة، تصلح للحق عز وجل.. إذا صح لك هذا فكل عمل تعمله يكون له لا لغيره، تزول عنك الكلفة، وتصير هذه النية طبعا للعبد، إذا صحت عبوديته لربه لا يحتاج إلى تكلف في شيء لأنه يتولاه، وإذا تولاه أغناه وحجبه عن الخلق، فلا يحتاج إليهم.. إذا أردت الوصول فكن مع امتثال أمره، والانتهاء عن نهيه، والتسليم إليه في الخير والشر، والغنى والفقر، والعز والذل، عند بلوغ الأعراض وكثرتها في أمور الدنيا والآخرة، تعمل له ولا تطالب بذرَّةٍ من الأجرة، تعمل ويكون قصدك رضا المستعمِل وقربه، فالأجرة تكون رضاه عنك وقربك منه دنيا وآخرة، في الدنيا لقلبك، وفي الآخرة لقالبك.. فإذا تم لك هذا، صار لقلبك عيون تنظر بها، صار.. المعنى صورة.. الغائب حاضر.. الخبر معاينة.. العبد إذا صلح لله تعالى كان معه في جميع الأحوال، يغيره ويبدله، ينقله من حال إلى حال، يصير قلبه معنى، يصير كله إيمانا وإيقانا ومعرفة وقربا ومشاهدة، يصير نهارا بلا ليل، ضياء بلا ظلام، صفاء بلا كدر، قلبا بلا نفس، وسرا بلا قلب، فناء بلا وجود، غيبة بلا حضور.. كل هذا أساسه الأنس بالله تعالى، لا كلام حتى يتم هذا الأنس بينك وبينه..
ويحك، خلق وخالق لا يجتمعان، دنيا وآخرة في القلب لا يجتمعان، لا يتصور.. لا يصح.. لا يجيء منه شيء، إما الخلق، وإما الخالق، إما الدنيا، وإما الآخرة.. قد يتصور أن يكون الخلق في ظاهرك، والخالق في باطنك، والدنيا في يدك، الآخرة في قلبك، أما في القلب، فلا يجتمعان”.
- ويمكن إيجاز بعض النقاط العملية في هذا المقام على النحو التالي:
1- اجعل لك نية صادقة صالحة في عملك.
2- لا تنوِ بعملك إلا ابتغاء مرضاة الله وقبول الله تعالى هذا العمل.
3- أن تكون خائفا بعد العمل ألا يتقبل منك.
4- ألا تفكر في الخلق عند بداية العمل، ولا تذكره لهم بغرض أن يثنوا عليك ويشكروك أو يعلو قدرك لديهم.
5- أن تسر بالعمل الصالح بينك وبين ربك، إلا إذا كان إظهار العمل من المصلحة العامة للمسلمين، مع عدم الالتفات إلى الناس فيه بشيء.
6- أن يخلو قلبك من التعظيم إلا له، فلا تعظم إلا الله تعالى.
7- أن ترى مساعدة الناس لك نعمةً من الله عليهم وعليك، حيث وفقهم لمساعدتك، ووفقك لأن كانوا سببًا في إسداء نعمته عليك.
8- أن تؤمن أن منهجه ودستوره هو الدستور الأوحد، وأن كل ما خالف قوله ومنهجه غير صحيحٍ لا يؤبه له، أما ما اخترعه الناس مما لا يتنافى مع منهجه، ولا يضاده فلا بأس به.
9- أن تؤمن بأنه سبحانه هو المعبود بحق، وأن كل ما سواه باطل، من العقائد المحرفة.
10- ألا تقدِّم على أمره أمرا، ولا على نهيه نهيا، فإن طلب منك أحدٌ شيئًا مخالفًا لأمر الله، فلا تطعه وأطع الله، وأن تسعى إلى رضاه هو، لا رضا غيره.
- وخلاصة القول يا أخي:
أن تنظر قلبك.. هل هو خالصٌ لله تعالى، وكل ما سواه مما في قلبك يجب أن يكون تابعا له، فحبك الوالدين والزوجة والأصحاب وغيرهم يجب أن يكون من حبه، فيكون أصل كل علاقة مردها إليه سبحانه وتعالى..
وقد كانت هذه –أخي الحبيب- إشارات أغنى عن التفصيل فيها ما سبق وسطرته أقلام طيبة على هذه الصفحة مما يفيدك، وأسأل الله أن ينفعك به، ومن ذلك هذه الروابط:
أسأل الله تعالى –أخي- أن يجعل قلوبنا خالصةً له وحده، وأن ينقيها مما شابها من كوادر الرياء والشرك، وأن يحفظنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أهوائنا وأعمالنا.
- د. مسعود صبري