استشاراتالشبهات

دور العلماء في زمن الابتلاء

  • السؤال:

 

السلام الله عليكم ورحمته وبركات..
جزاكم الله كل الخير على مجهوداتكم في خدمة الإسلام والمسلمين، أما بعد؛
أريد أن أسأل الأستاذ مسعود صبري أمرا طالما شغل تفكيري، وهو: لماذا يأتي فعل علمائنا الكرام على المستوى السياسي بعد فوات الأوان؟
قريبا قرأت في الأخبار أن وفدا من علماء المسلمين سوف يذهب إلى غرب السودان لمحاولة صلح بين الأطراف المتنازعة هناك.
أستاذي عمري 23 سنة، من إحدى دول الخليج، منذ صغري وأنا أتابع أحوال أمة الإسلام، وكل مصيبة تحل على هذه الأمة أرى علمائنا هم آخر من يتكلم على المستوى السياسي.
ما يحدث في السودان الآن لم يحدث خلال أربعة وعشرين ساعة، بل خلال سنوات من الحرب والمجاعة.. أين علمائنا منذ البداية؟
وقل مثل ذلك فيما حدث في الصومال والبوسنة وكوسوفا.. ما حدث في هذه البلدان كان نتيجة سنوات من الظلم، فأسمع علماءنا يتكلمون وينددون بعد أن حلت المصائب.
كذلك ما يحدث الآن في منطقة الخليج، وبالتحديد في الكويت والسعودية.. لم أسمع أحدًا من علمائنا قبل 11 سبتمبر أنه تكلم حول ما يحدث في سجون المملكة من التعذيب مثلا وكذلك العدل بين الرعية وأبناء الأمراء مثلا، أسمعت أن أحدا من أبناء الأمراء في السجن؟
كذلك درسنا في مناهجنا حكم الموالاة للمسلمين والبراء من الكفار، وفي نفس الوقت تستخدم أرضنا من قبل الكفار في غزو دولة مسلمة أيا كان حاكمها، فهي في النهاية دولة مسلمة، فهو كان موجودا قبل خمسة عشر سنة.
فلماذا كلمة علمائنا الأفاضل ليست مسموعة؟؟
أنا لست في وضع يؤهلني أن أنتقد أحدا لا عمرا ولا علما، وذلك امتثالا لقوله تعالى: (فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، فها أنا أسألك ما يدور في نفسي، فأرجوا أن أجد عندك ما يريحني بارك الله فيك.
وتقبلوا تحياتي، والسلام عليكم ورحمة الله.
ابنتكم مسلمة، إلى الأستاذ مسعود صبري.

 

  • الجواب:

أختي الفاضلة؛
شكر الله تعالى لك حسن ظنك بي، وأسأل الله تعالى أن أكون أهلا له، كما أحمد الله تعالى إليك على اهتمامك بشئون الأمة عامة، ودور العلماء خاصة.

هناك ملاحظات لي في هذا الموضوع أسأل الله تعالى أن يوفقني في الخلوص إليها، والوقوف عليها، سائلا ربي أن يهبني الصدق والتوفيق فيما أكتب،

  • وهذه الملاحظات هي:

1- أن الغالب فينا أن نحصر علماء الأمة في علماء الدين، والشيوخ الذين ينطقون بكلمات الشرع، ومع التأكيد على أن علماء الدين يجب أن يكونوا على قمة العلماء، غير أنهم ليسوا وحدهم علماء الأمة، وليسوا وحدهم هم الذين يفهمون الحياة بشكل دقيق، فهناك الكثير والكثير من التخصصات والمجالات مما يحيط بالحياة، فمن الصراحة أن نقول: إن كثيرا من علمائنا لا يدركون كثيرا من أمور الحياة ومجالاتها المختلفة، ومن أبرزها المساحات السياسية، مع التنويه أن بعض علمائنا الفضلاء هم حاملو راية الجهاد والمحركون للشعوب أن يناضلوا ضد المحتل الغاصب، ولكن الغالبية العظمى ربما لا يدركون كثيرا من الأمور السياسية، وانحصر دورهم في بيان الأحكام الشرعية البعيدة عن الحكم والسياسة ونوازل الحياة في السياسة والاقتصاد والاجتماع وغير ذلك، وهذا يعني أننا حين نعيب على علماء الأمة تباطؤهم فإننا نقصد بهم علماء الأمة كلهم.
فعلماء السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام والفنون وغيرها من مجالات الحياة يجب أن ندرجهم في فهومنا على قائمة علماء الأمة، بل إن الله تعالى حينما مدح العلماء مدحهم في مقام المعرفة به، لأنهم نظروا الكون وما فيه من علوم توصل إلى معرفته سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌۢ بِيضٌۭ وَحُمْرٌۭ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌۭ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلْأَنْعَـٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَـٰٓؤُا۟ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}، فجاء ذكر الطبيعة والخلق وغيرها من العلوم الطبيعية التي أوصلت أصحابها إلى خشية الله تعالى..

هذا يعني أن على كل صنف من علماء الأمة أن يقوموا بدورهم، ففي مجال السياسية –على سبيل المثال- يجب على علماء السياسة المسلمين أن يقوموا بدورهم مع علماء الشريعة، لأن الشريعة تلتصق بكل العلوم الأخرى اقترابا مختلف الأوزان حسب الموضوع، فهناك السياسة الشرعية، وهذه يجب أن يلم بها المتخصصون من علماء الدين، وأهل السياسة في بلاد الإسلام.

إن التغيير لن يتأتي بأن يرفع العلماء راية الجهاد، فهذا نوع من العبث الآن، ولا نريد أن نتحرك بنوع من العشوائية دون إعداد، وقد أمرنا الله تعالى بالأخذ بالأسباب، قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيلِ ترهبون به عدوَّ الله وعدوكم وآخرين من دونهِم لا تعلَمونهم الله يعلمهم)، فالواجب علينا الإعداد، وهذا الإعداد يشمل جميع مناحي الحياة، فهو واجب على علماء الأمة باختلاف تخصصاتهم أن يشاركوا في إعداد الأمة وشبابها.. كلٌّ في تخصصه، وأن يكون لعلماء الشريعة دور هام في بث الروح المعنوية، واتخاذ الدين مرجعية لتصرفاتنا وسلوكنا، كي نشحذ الشباب أن يستعدوا وأن يتقنوا فن الحياة في سبيل الله، بجوار إتقان الجهاد في سبيل الله، وأن ندرك عمليا أن نحيا في الحياة دائما بالجهاد في سبيل الله تعالى، جهادا قتاليا للمحتل الغاصب، وجهادا ثقافيا وفكريا، وجهادا اقتصاديا، وجهادا فنيا، وجهادا إلكترونيا.. حتى يصبح الجهاد منهج حياة، وليس استدعاءً لوقت الأزمات والملمات.

إنه يجب علينا أن ندرك كيف وصل أجدادنا إلى أن بنوا حضارة يشهد لها التاريخ، كما يجب علينا أن ندرك كيف وصل غيرنا إلى بناء حضارة لها كثير من ملامح البناء والتقدم والرقي، وأن نقف على أسباب تخلفنا، وأن يدرك كل منا دوره.. وعلى رأسهم علماؤنا الفضلاء في جميع تخصصهم، فنحن في حاجة إلى جهد كل علمائنا في جميع مجالات الحياة، والشرع لا ينفصل عن الحياة أبدا، كيف والإسلام هو الحياة؟؟!!

2- غير أنه من الحق والواجب علينا أن نقول: إن هناك علماء من المسلمين مازالوا يقومون بدورهم، لا يخافون في الله لومة لائم، وهم لديهم الكثير الذي يفعلونه، غير أنهم أيضا لا يعملون في “المريخ”، أو فوق سطح “القمر”، وإنما يعملون في واقع العالم الإسلامي بما فيه من قيود تحكمه.. وأما فك هذه القيود ليؤدي المخلصون من الدعاة والعلماء دورهم، وليقوم الشعب بدوره، فهذا ما لا يمكن الإجابة عنه في استشارة معدودة الكلمات، من شخص محدود الفكر، ولكن الإجابة عن هذا يجب أن يقوم بها علماؤنا الذين يغارون على دينهم في جميع تخصصاتهم، لنجمع بين الدين والدنيا، كما أراد الله تعالى لهذه الأمة أن تكون شاهدة على الناس، ولن يكون هذا إلا بعودة دور العلماء قاطبة في المجتمع، (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، ولن تكون الأمة شاهدة على العالمين حتى تقوم بدورها في العالمين، ولن يكون هذا حتى يتصالح الحكام والعلماء، وأن يعود الحكام إلى شريعة الله تعالى، وأن يكونوا مخلصين لأوطانهم ودينهم، فساعتها يفوزون بالسعادة في الدنيا والنعيم في الآخرة، وإلا فليتقوا يوما يرجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون، (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها).

3- الأمر الآخر، وهو أنه لا أدري: أمن تخطيط أعدائنا، أم تخطيط بني جلدتنا ممن يخافون على مصالحهم الشخصية حدث فصل كبير بين قادة الفكر والرأي، وقادة الساسة والحكم، وهذا الانفصال جعل أصحاب السياسة يتحركون وفق ما يرونه مطابقا لمصالحهم، أو المصالح التي يرونها صائبة وفق رؤيتهم التي قد تكون بعيدة عن الوجهة الشرعية.. فللسياسة أحكامها.

فلما حصل هذا الانفصال ضاع الشرع كمرجعية في اتخاذ القرار، وقد كان حكام المسلمين قديما يجعلون لهم من العلماء مجلسا خاصا يستشيرونهم في كثير من الأمور، واختلفت وجهة نظر العلماء بين قابل ورافض، المهم أنه حصل هذا الانفصال، وابتعد الحكم كثيرا عن الشرع، مما أحدث هذه البلبلة في كيان أمة الإسلام، حتى وصل الحال في العصر الحديث إلى تبني الدساتير الغربية التي حلت محل الشريعة الإسلامية لتزيد الفجوة، ولينحصر علماء الدين في المساجد والدوائر التي يتيحها لهم أهل الحكم والسياسة، وأضحى عالم الدين يجرجره إلى حيث لا يدري من لا خلاق له من الدين والأخلاق، وأضحى أقل رجل في الشرطة مصدر خوف وإزعاج لعالم الدين، ومع الاعتقالات والتعذيب والاضطهاد المختلف ألوانه وأشكاله حسب كل بلد إسلامي ضاعت هيبة عالم الدين، وساعد في ذلك الحرب الإعلامية التي تظهر عالم الدين بأنه أشبه بسفيه يطيع الأمر ويحل الحرام ابتغاء مرضاة الحاكم، فتخلخلت مكانته في المجتمع، وأصبح غير مسموع الكلمة، وإن كانت له مكانة قلبية عند الناس، ويمكن أن ينطبق عليه قول القائل لسيدنا الحسين مع أهل العراق: “قلوبهم معك، وسيوفهم مع بني أمية”، فأضحت قلوب الناس مع العلماء، وسيوفهم مع الساسة والحكام، وأضحى الناس على استعداد تام أن يبيعوا العلماء خشية وخوفا من بطش الساسة والحكام، وهذه ظاهرة لا يمكن تعميمها على كل الناس، ولكنها أشكال من التعامل مازالت موجودة ملموسة في الحياة، ونحن نؤرخ لها في تاريخنا، حتى يكون التاريخ شاهدا على الناس وشاهدا على العلماء وشاهدا على الحكام والساسة، وهذا ما يغفل عنه كثير من المؤرخين.

نحن في حاجة إلى التاريخ الاجتماعي الذي يعرفنا حياتنا، لنقف على العلل والأسقام التي أصابت الأمة، فنحن مازلنا نعتبر الحكام جزءا من أمتنا رغما عنا، ومازلنا نأمل أن يتقوا الله تعالى في شعوبهم وعلماء الأمة، وأن يضعوا الأمور في نصابها، وإلا فليسوا أمناء على مكانتهم، وليرجعوا إلى أماكنهم الصحيحة، فلأن يكونوا في غير مكان الرئاسة والقيادة للأمة على أن يؤدوا دورهم، خير ممن أن يتبوؤا مكانة تأتي حسرة عليهم يوم القيامة.

أختي الغيورة على دينك ودور علماء الأمة فيها؛
لا أكون مجاوزا للحد إن قلت: إن علماءنا لم يقوموا بكل دورهم، وإن لم يكونوا أمواتا في الأمة، وإن عددا كبيرا منهم أضحى كبقية عامة الشعوب، تحركهم لقمة العيش، ويخافون –كبقية البشر- على أنفسهم وأولادهم وقوتهم ورزقهم، وإن كانت الكلمات تعلو فوق المنابر من بعضهم أحيانا، غير أنهم لا يحركون ساكنا، ولذا وجد الخطاب العنفي -وأقصد به وضع القوة في غير موضعها- موضعه في قلوب العامة، وأضحى من نحسب أنه ليس صاحب فكر سليم يحتل مساحة من واقع الناس ومعاشهم، لأن علماءنا قعدوا عن أجزاء كبيرة من دورهم، ولم يقوموا إلا بأدوار قليلة مما يجب عليهم، وليس على الصورة المرجوة والمطلوبة منهم، وما يمثلون في حياة الناس من مكانة الريادة الروحية والفكرية، مع عدم إغفال أدوار من يقومون بدورهم من العلماء وهم قلة في هذا الزمان.

أختي الفاضلة؛
أعتبر هذا تحليلا لواقع الأمة من حيث الحكام والعلماء والشعوب، ويتضح منه أن على علمائنا أدوارا كبيرة يجب القيام بها، ولعل هذا يفسر لك لماذا يأتي دور العلماء متأخرا، إن العلماء لا يستطيعون أن يتحركوا إلا بموافقة من الحكام بسبب هذا الانفصال بينهم، فلو كان العالم في بلد وأراد السفر لدارفور مثلا أو غيرها، ولم توافق السلطات على سفره، فهل يستطيع أن يسافر؟؟

إن الحكام يضعون قيودا كبيرة على تصرفات العلماء لعلمهم بمكانتهم عند الناس، وما يمكن أن يؤثروا به في مجريات الحياة العامة، ولذا فقد قيد الحكام حركة العلماء، واستجاب كثير من العلماء لهذه الدعوة، وتراخى وجعل هذه الأمور تكأة ليتقاعس عن دوره.

هذه –أختي- بعض الكلمات التي أرجو أن تكون رفعت اللثام عن سبب تأخر العلماء في القيام بدورهم تجاه أمتهم، منها ما هم مقصرون فيه، ومنها ما يرجع إلى الساسة والحكام، ولكن يبقى تفعيل الدور مطلوبا، وهذا ما ننادي به جميع علماء الإسلام أن يقوموا بالتفكير فيه وتنفيذه.. فهم ورثة الأنبياء في هذه الأمة.

واللهَ سبحانه وتعالى نسأل أن يجمع الأمة على كلمة سواء، وأن يهديها طريقها وسبلها، وأن يهيئ لها أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية.. اللهم آمين.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى